II. جنوح ابن العلقمي :
حتى إسرائيل, حارس الغرب عندنا, ليست هي الرابح من الحرب المتنوعة الأوجه التي يقودها الغرب منذ أمد بعيد ويتابعها ضد العرب. إسرائيل ليست في وضع اقتصادي, ولا ديمغرافي, ولا سياسي, ولا نفسي يمكنها من الحصول على نصر حقيقي. إن حروبها, من 1948, هي عمليات إرهابية مؤلمة ولكنها عاجزة عن الرقي إلى مرحلة حرب تغير أسس المعطيات في المنطقة. والضعف لا يرجع فقط, ولا أساسا, إلى عدد سكانها. العرقلة الكأداء التي تجبرها على الالتزام بمعزلها هي أنها لا تتقاسم ولا تريد أن تتقاسم أي عامل مشترك, أي عنصر انسجام مع البحر العربي الذي سقطت فيه.
إسرائيل لم تـُسَيرْهَا يوما واحد الحكمة لتشرح لنا مشكلتها لتقودنا إلى فهمها, أو, من يدري, إلى تفهمها.
في الوضع الطبيعي العرب ليسوا متعصبين. إن عرب آسيا البعيدين كانوا مدافعين عن قضية ونضال السود في جنوب إفريقيا. العرب كانوا مساندين للإغريق المسيحيين ضد الأتراك المسلمين في أزمة قبرص, وكانوا أيضا إلى جانب الهند الهندوسية, في معظمهم إبان أزمتها مع باكستان المسلمة.
إسرائيل فضلت الاعتماد على سمومها ولكن, على المدى الطويل هذه السموم سيكون ضررها أكثر عليها منه على أعدائها. إذا كان مؤلما فإنه لا يقتلهم, حتى قنبلتها الذرية فإنها أكثر إرباكا لها من خطرها على أعدائها.
كانت إسرائيل ستكون خطيرة في حالات محدودة : لو كانت ركزت في دعايتها على ساميتها وقربها في المنشأمن العرب وذكرت بأن العبرانيين هم مجرد فرع من الآراميين, أو راهنت على الانفتاح الإنسانوي على طراز حركة " السلم الآن ".
ليست المرة الأولى التي يكون فيها المنتصر عسكريا مهزوما سياسيا, وهي الهزيمة التي لا تعوض.
إن بريطانيا العظمى خرجت من الحرب العالمية الثانية في عداد المنتصرين الذين استأثروا بعضوية دائمة في مجلس الأمن, ولكن من الصعوبة بمكان اليوم تمييز مَن المنتصر فعلا هي, أم اليابان وألمانيا؟.
هناك صيغتان من الهزيمة : الأولى بالقوة : بالهزيمة العسكرية, وهذه ليست قاتلة للشعوب القوية, لأنها ستبعث إذا كان نسغها الحيوي لم ينضب. هذا ما كان عليه وضع اليابان وألمانيا : شعبان في قوة نضجهما مغلوبان في شدة اندفاعهما. يلزم للقضاء على نبضهما العميق أكثر من قنبلتين ذريتين.
الهزيمة تقتل فقط الشعوب التي كانت مريضة من حضارتها, كانت ميتة سريريا, ولو أنها ما زالت تتنفس, أو حتى ما زالت واقفة على قدمين ولكنها منخورة لا تسكنها حياة. ركلة قدم واحدة تحيلها غبارا. هذا كان هو حال أولئك الهنود الحمر سيئي الحظ, عندما فاجأهم الأوروبيون بزيارتهم غير المرغوب فيها. فلم تعد في داخلهم طاقات كافية لوثبة مقاومة نافذة, أو مقاربة طويلة الأمد تمكن من نهضة مستقبلية, فخفت ضوءهم.
هذا كان تقريبا هو الشرك الذي سقطت فيه بزنطة, في نهاية العصور الوسطى. الإمبراطورية الجبارة كانت تتراجع منذ أمد بعيد دون أن تنتبه أو تحاسب نفسها. فسلَّمت, عكس المسيحية الغربية, بالقدرية. بل إنهااعتبرت أن حياتها الدونية حالة طبيعية. وعاشت على ماضيها المجيد تجتر ما لم يعد فيه طعم ولا إنعاش, تكرر الأفكار والكلمات والحركات والسلوك المعهودة في الماضي, حريصة على صفائها وأن لا يضاف إليها شيء, ولا ينتزع منها شيء, مفتخرة بهذا الجمود. فضلت في متاهة معادية للتفكير ودخلت نفق التأمل الكوني والعالم الأخروي. من هنا جاء ذلك المثل الذي أعطاها شهرتها المتأخرة : " النقاش البيزنطي ". صار الذهن محصنا معقما ضد أي تجديد, كل اختراع, كل اكتشاف, كل تقدم. هكذا سقطت بيزنطة, التي عاشت ألفي سنة من العز والازدهار.
تجدر الإشارة إلى أن جمود بيزنطة يوافق بالضبط فترة الانحدار في عهد الانحطاط العربي. القوتان الجارتان لم تهتديا إلى طريق القطيعة الأبستمولوجية, أو المعرفية, التي مكنت أوروبا من النهضة ومن ثم إلى تحليقها النهائي.
ليس من المبالغة اعتبار أن بيزنطة والأمة العربية أصيبتا بنفس المرض في الدماغ, عن طريق العدوى وانهارتا في اندفاع مشترك, مثير للشفقة.
إن اليونان شرقية, لنقل الأمور كما هي, والتيارات الحضارية أو المُحَضّرَة المتبادلة بين العرب واليونانيين هي أقدم وأكثف مما يعرفه الجميع, أي أن الفينيقيين مدوا اليونان بالأبجدية وبعض المفاهيم الدينية, وأن اليونان أعطت للعرب الثقافة الفلسفية وبعض المعارف في الرياضيات. حسب الفيلسوف زكي الأرسوزي, أحد منظري حزب البعث العربي الإشتراكي قبل سنة 1970,. " فإنهما تكاتفا في مقاربة ثنائية : الذهن السامي العربي الذي يميل إلى حقيقة الروح المثالية, عكس الذهن الإغريقي الذي يميل إلى اكتشاف نظام الطبيعة".
ومهما يكن من أمر فإن ورثة الحضارة الإغريقية الباهرةوأحفاد الوليد والرشيد سقطوا في الحضيض تحت سيطرة عصابة الضأن الأسود, وعصابة الضأن الأبيض, وهما بداة باهتون يتغذون بلبن الخيل, قادمون من مشارف منغوليا والتاريم, وإلى ذلك الحد كان التاريخ يجهلهم وكانت لغتهم في مرحلة الترتيب الأولى.
عندما جاء دور الصين المتأخر في القرن التاسع عشرلتواجه تحديات وجودية فإن الرد الوطني اختلف عن كل ما رأيناه في السابق. ولكن الصين ليست بلدا, الصين عالم, وعالم له حضارة عريقة. عندما ولد المعلم كونغ, أي كونفيشيوس, كان وراء الحضارة الصينية أكثر من ألف سنة. الفرق الأساسي بين الصين والوطن العربي هو أن الصينيين حافظوا على وحدتهم كدولة.
إذا كانت ثورة " التايبينغ " وثورة " البوكسير " فتحت أعين الغربيين على استحالة حكمهم المباشر للصين, فإن الوثبة الوطنية الشاملة, التي لا تقهر, جاءت فقط مع مطلع القرن العشرين, مع القيادة الواعية للحزب الشيوعي الصيني ورئيسه ماوتسي تونغ. لم يكن ذلك من أجل الحصول على سلطة. الصينيون انطلقوا من هذا التشخيص : لم يعد بالإمكان ترقيع الصين ! يلزم إعادة بناء تام وفوق كل شيء إذابة الإنسان ـ كما يذاب المعدن ـ وصبه وسبكه من جديد, مع ذلك الظمأ الشديد لاسترجاع المجد المفقود.
إن ذلك التحضير العسير هو الذي أعطى للصين الرجال الأشداء الواعين الذين مكنوها, بعد توجيهات دينغهيسياو بينغ, من تحقيق معجزتها في أن تنجز, خلال ثلاثة عقود, التقدم الاقتصادي الذي حققه الغربيون خلال ثلاثة قرون.
حالتنا نحن العرب هي من أعقد الحالات لأنها تتكشف بحدة في هذه المرحلة المأزومة وكأنها متأخرة في تاريخ متسارع.
الثورة الثقافية, أو القطيعة الفكرية في الأذهان فاتتنا في مطلع الأزمنة الحديثة ولم نتمكن, في القرن العشرين, من أن نتحول وننسلخ سياسيا واجتماعيا ونحقق أملنا السامي في تكوين دولة واحدة, أو على الأقل في تكوين نظام سياسي اجتماعي منسجم يتقدم بوتيرة واحدة.
إن الأمم الكبرى المماثلة حققت, على العموم, وحدتها ووصلت إلى مستوى متقدم من النمو والقوة. إننا نحس بمرارة حادة هذا التأخر ونحن نتخبط بخطل لرفض هذا المصير الظالم. الكثير منا ومن غيرنا يعتبر أن الأمور ترتبت وأن المواقع وزعت, وأن كوى الرمي احتلت وأن التراتب حسم نهائيا. وقد نظـّر كاتب أمريكي مرموق وهو " افرانسيس فوكوياما " لهذا الشطط البائس في التفكير في كتاب بعنوان : " نهاية التاريخ ". فرَدّ الكاتب الأمريكي, المرموق هو الأخر, " سامويل هنتيغ تون " ملاحظا, أكثر منه متنبئا, ب " صدام الحضارات " وهو عنوان كتابه.
ليس هناك عهد سكوني. لقطة هدوء من بضع سنوات في إيقاع أو تواتر الحركة قد تضلل. حتى في تنفس الإنسان هناك لحظات توقف لا تعني الموت.
لم يجد أحد في التاريخ أرضا فاضية مواتية, وهي نادرة في كل الحالات في الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط, ليأخذها على هواه وينمو فيها ويكبر ويتقدم للآخرين ويقول لهم : ها نحن, تعاملوا معنا نريد مكانة. إذا كان المرء جديرا بالتقدير والاعتبار وكان مصمما على أن يكون لاعبا يتمتع بالمصداقية فإنه يفرض مقامه. فعلى منصة شرف الأمم ليست هناك مغالطة, وليست هناك هبة. الاستحقاق وحده هو المعتبر.
هناك مسألة لا جدال فيها : لن نحصل على حقوقنا إلا بجهود مضنية, وبالتوقف عن الاعتماد على الصدفة. تحديد أهدافنا والعمل على ذلك الأساس. تلك هي الطريق.
لاشك أن صحة الاستراتيجية وطموحها, مع الواقعية, هما حاسمان. الطموح يمليه تطلع شعبنا في اختزال الزمن واللحاق بالركب الأمامي, ورفضه للهزيمة الذي يتجدد كل يوم, لأن نسغه المقوي سليم وكامل. هذا الرفض الدائم للتقاعس يستند إلى نقاط قوتنا والميزات العددية التي نتمتع بها. سلبياتنا التي يجب أن لا نخفيها عن أنفسنا, و نقاط ضعفنا التي يجب أن لا نقدرها بأقل من الحقيقة تفرضان علينا حتمية تنازلات عديدة, لاشك.
التنازل أثناء التقدم نحو هدف استراتيجي واضح هو خطوة إلى الوراء ولكنها مؤقتة وتسهل النجاح. أما عندما لا يكون هناك هدف واضح عند الشعب, فإن تلك الخطوة إلى الوراء تكون مدمرة, وتكون على الأسوأ تقهقرا, وفي أحسن الحالات سباحة في الظلام.
الحالة المثالية هي أن نجد حوارا نزيها مع أولئك الذين يواجهوننا في حرب عدوانية دائمة, أي الغربيين.
ولكن هؤلاء مغرورين بمكانتهم المهيمنة وينظرون إلينا بقدر من الازدراء, ويرفضون في الواقع المساواة والتفاهم. الولع بالسيطرة والتعود عليها, مقرونان بالشـَّرَهِ المفرط للكسب غير المشروع, يجعلهم فاقدي السمع, ومستمرين في تحليق هو أشبه بمأساة أوديزوس المصفد فوق سفينته.
في ظروف كهذه يجب الاعتماد على القوة الذاتية والحق أن الظروف هي التي تملي المسار, وليس فقط الهدف النهائي. الاعتماد على القوة الذاتية. ولكن ليس على طريقة سالوث سار, الذي نال شهرته تحت اسم " بول بوت " الذي كان يقول, بعد انتصاره في كموبدجيا : " لن نطلب من أي أحد شيئا حتى ولو كان قرصا من نيفاكين لعلاج الملاريا... يجب أن نعمل بقساوة وجـِدٍ وأن يعلم الناس أنهم خُلقوا من حبة الأرز. بالعرق والكد من أجل استصلاح الأرض, والبذر, والزرع, والغرس, والحصد, يكتشف الإنسان القيمة الحقيقية للأشياء ". ليس هذا الخطاب السليم هو الذي نلوم عليه بول بوت, وإنما الطريقة الخاطئة التي اتبعها, لأنه لم يعتبر ظروف شعبه والمحيط الإقليمي والدولي.
في كل الحالات, لكي نتفادى التيه والجري وراء عدة أرانب, يجب أن نحدد الخطر الأول.
يمكن تلخيص الوضع في كلمات محدودة : كنا نحاول التحصن ضد الزيارات الليلية للأسد الغربي المفترس, فإذا بضبع مهووس, في وضح النهار, يدخل خيمتنا. ما هو الموقف؟ متابعة التحصن ضد زيارات الأسد المحتملة,أم محاولة التخلص من الضبع الأكول الذي يريد أن يلتهمنا الآن قبل غد؟
ليس هناك مكان للتردد, يجب الإفلات من الخطر الآني. الخطر المحدق يكمن في الفرس والأتراك, أولئك الأعاجم الهمجيين, غير المتمدنين والحاقدين الذين ليس لهم عمق حضارتنا, ويتحينون الفرصة, عند أول غفلة لينقضوا علينا ويبثوا الدمار ويعمقوا ثلمة التأخر والتخلف.
كل الحروب والهزائم التي سددها لنا الغربيون وانتصروا فيها كانت سياسيا لصالح الفرس والأتراك. تطلعهم لقيادتنا والسيطرة علينا جاء من هذا الشعور وهذه الحقيقة الخفية. لم تعد المسألة مجرد إرادة عندهم وإنما شرعوا في الأفعال منذ سنوات عديدة. الكثير منا عاجز ـ إذا كان مهتما ـ عن إدراك الوضع, والبعض يعتبر أنه ليس معنيا ويتبع سياسة النعامة, أما الأشرار الصريحون فإنهم مستعدون لفعلة ابن العلقمي الخسيسة, الوزير الذي سلم بغداد للمونغول في القرن الثالث عشر.
في هذه المواجهة الحتمية, التي بدأت منذ سنوات, ليس عندنا الكثير من الحلفاء. الأوروبيون يراهنون على إيران.أما روسيا والصين, يجب أن نعترف بذلك, فإنهم لم يفهمونا وليس بإمكانهم, إذا, أن ينخرطوا معنا استراتيجيا. فلكي نحصل على ثقتهم فإن الأمر يتطلب أكثر من عبارات مجاملة. وحدها الأفعال الملموسة غير الخجولة هي التي بوسعها أن تحرك الخطوط.
موقف وتصرف الولايات المتحدة الأمريكية ليس سرا على أحد. ربما نقطع معهم جزءا من الطريق ولكن ليس بإمكان أحد أن يراهن على امريكا. التغيير المفاجئ في المسلك, في الأوقات الصعبة هو عادتها إن لم نقل طريقتها. أمريكا ليست حليفا يوثق به ويجب أن لا نربط هذا الحكم بوجود دونالد اترامب على رأسها. قد يكون هو أفضل رئيس للولايات المتحدة عرفناه. وربما يكون تجسيدا لفكرة الفيلسوف الألماني " جوته " حول " تلك القوة التي تريد دائما الشر, ودائما تفعل الخير ".
ـ يتواصل غدا ـ