على غير عادة هذه الأيام الشتوية، استيقظت باريس هذا الصباح على دغدغة أشعة الشمس الدافئة. انحسر قليلا دخانُ المدافيء من فوق السطوح ذات القرميد الأسود وانفتحت بعض النوافذ تاركة شيئا من الأشعة يتسلل الى البيوت.
انحسرت كذلك شالات الصوف من حول الاعنقة سامحة للدفء بأن يلامس الاجساد. كلما ارتفعت حرارة الشمس قليلا ، علا بخار الماء من فوق أسطح السيارات العابرة باتجاهات مختلفة. تعبر السيارات إيذانا ببدء نهار سيكون لا شك باسما على ثغور الفرنسيين وسكّان العاصمة . ثمة علاقة بين الشمس والفرح لا يعرفها الا من عاش أشهرا طويلة من المطر والصقيع والثلوج وأسابيع قليلة من الدفء....
استَقٍّلُ سيارة التاكسي صوب المطار . ما أن أجلس في المقعد الخلفي لكون الجلوس الى جانب السائق شبه ممنوع في فرنسا، حتى يقابلني السائق بابتسامته العريضة وب "صباح خير" زاخر بالفرح ... عال ...ممتاز ... بدأ يومي اذاً جميلا ، قلت لذاتي .... كانت تلك آخر جملة اقولها في داخلي . لم يترك لي السائق لحظة واحدة لأحداث نفسي او حتى أفكر ...
كان صوت أغنية قبائلية ( بربرية كما يعرفها أهل الشرق) تصدح من مذياع سيارته. انه شدو الفنان الجزائري والناشط السياسي والرمز القبائلي الراحل معطوب لوناس . اغتيل في خلال الحرب الجزائرية منتصف تسعينيات القرن الماضي . عُرفت تلك الحرب البشعة باسم العشرية السوداء او الحمراء لانها استمرت ١٠ سنوات بين الجيش والجماعات الاسلامية المسلحة. قتلت وجرحت وأعطبت مدى الحياة عشرات ألوف الجزائريين . وقعت الحرب في أعقاب إلغاء الدورة الثانية للانتخابات التشريعية بعد اكتساح الجبهة الاسلامية للانقاذ الدورة الاولى . ربما كانت تلك اول حرب يخوضها جيش ضد الاخوان المسلمين وتيارات إسلامية اخرى في دولة عربية منذ منتصف القرن الماضي .
كانت السيارة تعبر بنا بين ظلال الأشجار الوارفة قرب نهر السين قبل ولوج الطريق شمالا صوب المطار . كان بعض المتحمسين للقاء الشمس يمتطون الدراجات الهوائية على طول النهر وكأنهم ذاهبون للقاء حبيبة .
نظر السائق الى الخلف : " هل يزعجك يا سيدي صوت الراديو " أجبت بلا . التَفَتَ ثانية :" هل تعرف المغني ؟ " أجبت بنعم وباني كنت أُغطي احداث الجزائر في منطقته حين تم اغتياله . أردف سريعا :" تعرف اني احبه اكثر من ابي لا بل حين أخبرت ابي بأني احبه اكثر منه قطع علاقته بي منذ ١٥ عاما حتى اليوم ." صدقته لان طباع الجزائريين الصادقة والحادة قليلا لا تقبل منتصفات الحلول ولا التكاذب الاجتماعي المشرقي المسمى مجاملات.
خفض صوت الراديو ببطء وكأنه يخشى على فنانه ان يهرب منه او كأنما يخشى إزعاجه وهو يغني .
تابع الحديث وتابعنا الطريق :" ابي لم يكن يحبه ربما لان معطوب لوناس كان معارضا شرسا للسلطة ولهيمنة العرب بينما ابي كان مع السلطة . انا نشأت على أغانيه وترعرعت بين كلماته ولا زلت حتى اليوم كلما استمعت اليه يقشعر بدني ، بالله عليك اسمع هنا ماذا يقول ... "
يرفع صوت الراديو . يترنح مع الاغنية ، ينقر برفق على المقود ثم على فخذه . استمعت ولم افهم لكن اللحن جميل .
لحسن الحظ انه في تلك اللحظة بالضبط بدأ معطوب لوناس يلقي خطابا بالفرنسية وليس باللغة القبائلية (اي الامازيغية). لعن السلطة والمعارضة القبائلية الزائفة وكان يقصد الزعيمين البربريين حسين آيت احمد وسعيد سعدي رغم ان الاول هو مِن آخر وأنزه رجال الاستقلال .
يلتفت اليَّ السائق :" بالله عليك اسمع هذه الجواهر ، والله انا احبه اكثر من النبي محمد " ...
أُف .شعرت ان الحديث بدأ يخرج عن أسسه الاخلاقية . لم اعرف في حياتي جزائريا، لا عربيا ولا قبائليا يقول انه يحب شيئا اكثر من رسول الله . عجبت لجرأته. قلت ربما هو حاقد فعلا او ربما هي اندفاعته العاطفية . ثم أضاف ": يا اخي اليهود كانوا عندنا قبل المسلمين وبقيت حضارتنا " .
"أنتبه يا رجل " نهرته . كاد يصطدم بالسيارة أمامنا. سارعت الى التقاط اللحظة وقلت :" هل رأيت سرعة رد الله على من لا يحب رسوله ؟" . ضحك وأجاب :" انا أمي حاجة وذهبت مرتين الى مكة " .
تخيلتها امرأة قبائلية سمينة قليلا ، عيناها خضراوان ، ملتحفة بثياب القبائل المزركشة، تحب اولادها الى درجة هجر كل متع الحياة لأجلهم . تتفانى لإسعاد زوجها وعائلتها . تُرضِع ابناءَها تراثَهم وحضارتَهم . فكرت كم تكون حزينة لمآل ابنها وكم تؤنبه .
لم يتركني أفكر . اكمل المونولوغ :" هل تعرف اني اكره المسلمين ولا اخجل بالقول اني ملحد " ... قلت له انت حر في ان تكره من تشاء ولكن هل يعقل ان تكره كلام الله وكتابه ؟.
سألني وهل انت تحبه . قلت له : " انا احب كل الاديان السماوية التي تجعل الانسان اكثر اخلاقا في مجتمعه وأكثر قربا من خالقه " .
بين رغبتي في ان أقفل الحديث وحشريتي في ان اعرف سبب نقمته اخترت الثانية. لا باس ،لعلي أستطيع ان أخفف على الأقل من حقده ، او لربما عنده كارثة شخصية اوصلته الى ما هو فيه .
قلت :" هلا أخبرتني ايها الملحد السعيد بذاته ما الذي جعلك تكره المسلمين وتحب معطوب لوناس اكثر من رسول الله ؟ "
التفت صوبي بعينيه الصغيرتين شبه الخضراوين وشعره الخفيف البني وابتسم . استدار صوب الراديو واخفض الصوت . ثم لفتة ثانية نحوي . رجوته ان يكمل الحديث وهو ينظر أمامه لأني لا اريد ان اموت بصحبة كافر ...ضحك وقال :
" انا ملحد ولست كافرا ، احببت الشيوعية واقرا كل يوم سقراط وأفلاطون ومعظم فلاسفة اليونان . انا عشت يا اخي في منطقة القبائل في الجزائر وكنت اشعر اني انتمي الى بيئة ضعيفة . كان ابي يُشعرني بانه ضعيف . حين بدأت الاستماع الى معطوب لوناس استعدت كرامتي وفهمت ان غزو الاسلام لبلادنا قتل لغتنا وثقافتنا وحضارتنا. يا اخي لا افهم لماذا ممنوع علينا ان نجوِّد القرآن بلغتنا الامازيغية ؟ ولماذا كل تاريخ الاسلام والمسلمين غزوات وحروب ودماء وذبح وسيوف ؟ هل تعرف والله حين توفي والدي وجاء شيخ سلفي يقرا الفاتحة على روحه ، قلت له لو قرأت عليه بالعربية سأفتح صدرك والتهم قلبك امام الجميع ، خاف وهرب ...انا اكره السلفيين واؤلائك الذين يدعون انهم معتدلون ، كلهم سواسية"
كان بودّي ان اجادل سائقي القبائلي الذي يرفض ايضا انتماءه الجزائري على اعتبار ان قبائليته هي الهوية لعلي اخفف قليلا من عنصريته . كان بودّي ان انفض غبار وفوضى ودماء الحاضر عن الاسلام لاشرح له محطات مضيئة من تاريخ العرب والمسلمين ومسيحيي الشرق . كانت رغبتي قوية في ان أقول له ان أمازيغيته لا ينبغي ان تناقض عروبتي اوتلغي كردية آخر او تنبذ سريانية ثالث ، لكني فهمت ان النقاش مستحيل . فهمت انه ليس فقط مقتنعا بكل هذه الأفكار وإنما ناشط فيها ويبشر بها بين الجمعيات الامازيغية في الجزائر وفرنسا .
تابع وكأنه يكتفي بسماع كلامه اكثر من أسئلتي :" يا اخي الكريم انا لم أكن اتحدث الامازيغية قبل مجيئي الى فرنسا . جئتها عام ١٩٩٦ ، تعلمت لغتي هنا ، وهنا اكتشفت كبار الفلاسفة ،وهنا شعرت بحرية ان أفكر كما اريد حتى ولو أردت الإلحاد "
وبغرابة اكثر شرح لي كيف يعيش مكتفيا بمبلغ مالي بسيط وانه لا يقبل ان يأخذ قرشا اكثر من اجر التاكسي الظاهر على العدَّاد .....لانه لو أخذ اكثر " فهذه رشوة ".
كانت السيارة تمر بمحاذاة الضواحي الفرنسية الزاخرة بأهل المغرب العربي. كانت الملابس المنشورة على الشرفات احتفالا بالشمس تعلن ان السكان ليسوا فرنسيين. كانت الإعلانات التجارية تمر سريعا امام ناظري فتتقاطع مع حبال الغسيل . سألته الا يخشى على حياته من مواطنيه المغاربة المعروفين بإيمانهم وبان بعضهم في فرنسا من هو شديد التطرّف . ضحك وقال وهو ينظر أمامه :" ضربوني مرتين ولكني افضل ان اموت وانا صادق في ما أقول على ان أعيش متزلِّفا ومدَّعيا اني مؤمن وانا لست كذلك " .
رفع صوت معطوب لوناس مرة اخرى. نظر الي وابتسم . لم ابتسم . فكرت بسؤال واحد : " هل ان الصور الحالية للذابحين وقاطعي الرؤوس باسم الاسلام ستقنع هذا المتمرد الملحد بان يعود فعلا الى إسلامه ؟ " على الأرجح لا .
ترجلت.... كان امامي ملتحيان جزائريان يرتدي احدهما جِلْبابا تقليديا من بلاده والثاني قميصا أبيضا ينزل قليلا تحت الركبة مذكرا بحال السلفيين.... نظرت الى السائق وجدته ينظر إليهما ثم يلتفت الي ويبتسم ...
توجهت الى الطائرة صوب روما.