بعد انتخابات ألفين وسبعة التي توجت المسار الانتقالي للانقلاب على الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع تعطل المسار الديمقراطي نسبيا ولم تكن الانتخابات التي شفعت ذلك مقنعة لكافة الطيف السياسي كما اقتنعت تلك الأطياف بالإجراءات الفنية واللوجستية لتلك الانتخابات وهو ما سهل الاعتراف بنتائجها ومباركتها
واليوم تستعد الساحة السياسية لاستحقاقات يحلم البعض أن تعيد تلك السيرة وتنهي سنوات من الشد والجذب السياسي الذي أثر سلبا على النواحي الاقتصادية والاجتماعية في البلد وساهم في بطء عملية النمو والانتعاش الاقتصادي.. بل ويرتفع السقف لتصور أن يكون الصوت المعارض حاضرا بقوة إن لم يكن المنتصر وهو حلم تغذيه تصورات عدة وإن ظلت نسبة التمني فيه عالية الارتفاع.
فيما ينظر البعض إلى هذه الانتخابات على أنها امتداد للمسار الموجود ذاته وإن تغيرت الأسماء فلا يعدو الأمر أن يكون تبادلا للأدوار بين الممثلين مع الالتزام بالسيناريو نفسه بل وجزء معتبر من الديكور والجالسون في القاعة مدعوون للتفرج فقط.
وبين التصورين المتباينين يمكن وضع تصور يأخذ من الأول نفس جزء من التغيير المنشود ومن الثاني روح الواقعية التي تحكم خطوات العقلاء.
ما يشوش على التصور الأول هو تجاوز بعض المعطيات الواقعية التي أثبتت الوقائع تأثيرها في المشهد السياسي بل وتعزيز ذلك في الفترات الأخيرة لمقتضيات معلومة، فالفسحة الزمنية التي حكم فيها المجلس العسكري قبل انتخابات ألفين وسبعة وما طبعها من منع قادته وأعضاء حكومته من الترشح خلط أوراق المشهد حينها إلى حدما وخلخل مفهوم مرشح النظام الذي كان سيفا مسلطا على "الناخبين" وإن استطاعت "الدولة العميقة" أن تعيد ترتيب أوراقها لكن ذلك لم يكن بالشكل المألوف وهو ما تجلى في تعزيز صفوف المعارضة بشخصيات وقوى سياسية لم تعرف حناجرها نطق كلمة "لا" إلا في التشهد فكان الناخب في حل من أمره نسبيا وكانت الإدارة حيادية بشكل كبير وهو ما تجلى في فشل مرشح (الدولة العميقة) في التجاوز في الشوط الأول بل وكان لانحياز بعض القوى السياسية الخارجة من رحم المعارضة الدور البارز في معادلة الفوز
فقياس الاستحقاقات المقبلة على تلك قياس مع وجود الفارق ففي هذه أعلن هرم النظام مرشحه قبل مغادرة القصر الرمادي ولم تشهد ساحة الأغلبية ارتباكا يذكر سيما وأنها وجدت الضوء الأخضر في فترة مناسبة لزيادة التماسك ورص الصفوف كما أن ذلك سينعكس على موقف المسؤولين وكبار الموظفين ورجال الأعمال وبالتالي فالإدارة التي ستشرف على الانتخابات تعرف من الآن من هو مرشح النظام علانية ويزداد الأمر منعة وقوة بكون المرشح المعلن من أبناء المؤسسة العسكرية التي ظلت منذ الانقلاب على أول رئيس للدولة تمسك بزمام الأمور وتترك بصمتها في المشهد إما مباشرة أو من وراء الستار
كل ذلك يضعف من تصور أن يكون المشهد المقبل مغايرا بشكل كلي للمشهد الحالي أو أن تكون المعارضة في موقع يمكنها من أن تكون منافسا قويا قد ينتصر نهاية المطاف سيما وأنها ليست على قلب رجل واحد، وما يظهر من التماسك العلني تنخره خلافات وحساسيات "فآونة تخفى وآونة تخفو" بينما تؤمن " رائحة"المخزن" الطرف المقابل من هزات قوية في بنيته العميقة فبارقة الحصول على جزء من الكعكة كفيل بامتصاص أي اهتزاز أو ارتباك قد يحصل في هذا المربع
لكن ذلك لا يقتضي بالضرورة دقة التصور الثاني واعتبار الأمر امتدادا حرفيا للنظام القائم وبالتالي فنحن أمام مأمورية ثالثة سميناها بغير اسمها ..فثمة معطيات ينبغي أخذها بعين الاعتبار في هذا الصدد
فمما عكر صفو المشهد السياسي طيلة الفترة الماضية كون قائد الانقلاب على الرئيس المدني المنتخب هو من تصدر المشهد بينما ظلت ذهنية البعض تحتفظ له بصورته صبيحة انقلابه وضح النهار على الرئيس الشرعي، وتعزز ذلك بعدم التعاطي المطلوب مع مؤسسة زعامة المعارضة ومع الطيف المعارض بشكل عام وظل "إخلال" النظام بجزء من اتفاق داكار عقبة كأداء أمام تهدئة الساحة من الناحية السياسية وعرقل من التواصل المستمر بين مختلف القوى السياسية المتخاصمة فكانت مقاطعة المعارضة لهذا المسار أو ذاك دليلا على عمق التباين وهو ما انعكس بشكل سلبي على المشهد وألقى بظلاله على مختلف الفضاءات
قد يقول البعض إن "الفريق" المرشح محمد ولد الغزواني كان عضوا في فريق الانقلاب على الرئيس الشرعي وأن ذلك كاف لاعتباره امتدادا لذلك المسار العسكري ولهذا التصور وجاهته لكنه لايلغي الفارق بين من تربع على رأس السلطة وبين غيره سيما وأن الأزمة السياسية وتعقدها جاء في ظل حكم الرئيس بعد الانتخابات التي شاركت فيها مختلف الأطراف مما يعني أنه كان صاحب القرار الأول والأخير وأن له بصمته الخاصة التي قد لايشاطره فيه غيره من أعضاء الفريق في وضع دستوري يعطي الرئيس صلاحيات واسعة
فمكمن الأزمة بالدرجة الأولى ليست الخلفية العسكرية لمحمد ولد عبد العزيز بقدر ما هو تحفظ المعارضة على إدارته لدفة البلاد. وفي هذه لافرق بين من كانت له خلفية عسكرية أو من لم يعرف طريقه نحو الزي العسكري. ولو كان ثمة انسجام واتفاق بينه وبين مختلف الأطياف لكان بالإمكان وجود واقع مغاير تماما للواقع الحالي.
فبواقعية لا تحلق بعيدا ولا تستعير جناحي تفكير يقترب من مواصفات أحلام فارس عشرينية يجدر التذكير بأن البحث عن حل راديكالي من خلال انتصار المعارضة في الاستحقاقات المقبلة وإزالة أنقاض النظام الحالي إيغال في الطموح وابتعاد في الجنوح ولكنه ليس مبررا لخفوت الصوت المعارض أو انصهاره في خطاب مغاير.. ومع ذلك لابد من النظر بكثير من التؤدة والتروي والعقلانية
فما يحتاجه البلد الآن للخروج من عنق الزجاجة هو "الممكن" لا " الحلم" هو ما "نستطيع" لا "ما نريد"
وفي ضوء الأحداث والسياقات المحلية يبدو محمد ولد الغزواني أقرب لمنطق العقل فالرجل بسمعته داخل العسكر وفي الإطار السياسي يمتلك من السمات ما يجعله قادرا على الخروج من عباءة النظام بطريقة لا تفسد للود قضية ولا تلزمه أن يرث مواقف النظام السابق واجترارها كما هي.. فلا يوجد رئيس يلزم نفسه خطوات من سبقوه بشكل صارم ولعله بعقليته العسكرية يكون أكثر إقناعا لبعض الشركاء وبابتعاده عن الخصومات يقنع شركاء آخرين محليا ودوليا..
قد يفغر البعض فاه ويصيح هذه دعوة خطيرة لاستمرار العسكر في السلطة وهو سبب ما تعانيه البلاد من ويلات وأزمات ومع تفهم هذا الاعتراض إلا أن المنطق يقول إننا في هذه الظرفية أمام خيارين إما أن نحاول أن نبحث عن حل جذري يمسح الطاولة ويزيل كل ما له علاقة بالنظام الحالي وهو غير وارد ولا تمتلك المعارضة أدواته وفشلت في ترتيب آلياته..وإما أن نتصالح مع المؤسسة العسكرية و تبحث عن نقاط مشتركة حتى يتسنى ابتعادها عن السياسة بشكل تدريجي يكون من مقدماته التفاهم مع أحد أبنائها على أن يكون من أولوياته تجنب أخطاء الأنظمة السابقة سيما ما يتعلق بالفساد وسوء التسيير ورد الاعتبار لهيبة الدولة وملف العلاقات الدولية
إذا استطاع غزواني أن يؤمن هذه الأمور طبعا مع الاحتفاظ بما تحقق في مسيرة العمل الديمقراطي يكون الوقت مناسبا للحديث عن استقرار وجو سياسي ملائم لما ستقبل عليه البلاد من استغلال لثروات مهمة ويكون فرصة للحديث مستقبلا عن ابتعاد الجيش عن السياسة خطوة خطوة.
أحمد أبو المعالي