إذا كان كل فهم يقتضي التصنيف والتمييز فكيف نصنف ولد ابريد الليل ؟
أهو الشاعر السريالي ؟ أم الفيلسوف المنظر؟ أم الرسام التشكيلي الملتزم؟ أم السياسي القومي الرافع لشعار الوحدة والاشتراكية والحرية؟
في مسعاي لمعرفة الرجل ، قرأت بعض ما كتب فأعجبت بقدرته على توظيف التاريخ الغابر في تفسير الواقع المعيش وفك ألغازه، وذكرني بابن خلدون في استخلاص العبر من الماضي الشبيه عنده بالحاضر شبه الماء بالماء.
وفاجأني الرجل بحضور عادات البدو الرحل في ذهنه ، ودقته في توصيف الجمال وصبرها ودفين حقدها على أعدائها، وكيفية انتقامها منهم انتقام بعض القيادات السياسية بعضهم من بعض.، واسترسل في ذلك وأجاد وأبدع حتى أصبحت لا يخامرني شك أنه ديلول عصرنا.
ولما أطل علينا مؤيدا ولد ببكر في سباق رئاسيات 2019 ومراهنا عليه وواثقا به و’’فالش مكرو’’ ، تابعته فوجدت كلامه غنيا بما بسط فيه من معلومات وتعليمات وصور حية متنافرة الألوان والشخوص والمشاهد في لوحة سريالية عجيبة تعرض المغاير وتختزله في محاولة يائسة تتجلى في الحفر بالأظافر في صخرة صماء في ليلة ظلماء لشق محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، و إسعاف صاحب القلب المفتوح في غرفة العمليات ، والحريق الزاحف الذي تهدد ألسنة لهيبه أرض موريتانيا وما عليها بالفناء ، فقلت هذا إن لم يكن بيكاسو فهو سيفلفادور دالي، ولكن هل تروم هذه اللوحة ان لا يبصر الموريتانيون دليلا وأن لا يتدبروا حجة أمام هذا الخطر المخيف.
وفي مقطع من حديث محمد يحظيه علمنا طريقته مشكورا في كيفية أخذ القرار السياسي المهم وأين يؤخذ وما على الوزير أن يبوح به أثناء نقاش القرار إن هو حضر أو أخذ في غيابه، وذلك بعرض انموذج من تاريخ فرنسا أيام ديقول مشيرا إلى أن من يعرف القانون يحترمه ويحترم أسمى وثيقة منه وهي الدستور، فقلت هذا حوم رابي بعث من مرقده
ولكن الشاعرية من أبرز سمات الرجل، وترجمة الشاعر للشاعر تربك المعاني وتشتت المشاعر وتطير بالمتلقي إلى حيث تنتهي الدلالة ويبطل مفعولها، وهذا ما حصل معي حين سمعته يشيد بالشاعر الفرنسي فيكتور هيكو وبما نسب إليه مما لم أفهم وهو: (أقوى ما في الدنيا فكرة حان وقتها)فمتى تحين الأفكار ؟ وهنا أيضا ذكرني بشاعر آخر وهو نزار قباني ومقال له تحت عنوان: (إنهم أغبياء يحاكمون فلتير). عرض فيه نزارالحوار بين ديكول وبين وزير داخليته على خلفية إعتقال جان بول سارتر داعيا إلى العصيان المدني ، بالكتابة على الجدران وتوزيع المناشير في باريس سنة 1968 : حين خاطبه منفعلا أ أنت أعتقلت جان بول سارتر؟ فأجاب الوزير لا يافخافمة الرئيس بل إعتقله القانون الفرنسي ! ليضرب ديكول بيده على الطاولة قائلا ليس بإمكان فرنسا أن تحاكم فولتير فليطلق سراحه فورا
ولاشك أن الشعراء ينثرون الشعر فتغيب القافية وتختفي الموسيقى ولكن يبقى تداخل المعاني والصور وجمال العرض ونبرات الصوت العفوية واللباقة وسمو المقصد والحكمة، ومحمد يحظيه في هذا يعانق ولد هدار في مدح دودو سك حيث يقع حافر أحدها على الآخر فوق فم الجرح "واعل فم الجرح يوط ما حس المجروح".
فمحمد يحظيه وطأ برجليه على الجراح التي لم تندمل، جراح المهجرين والنازحين وو... ظنا منه بعدم إحساس بعض المجروحين من قادة الرأي وأصناف النخب في المجتمع الموريتاني، فجعل مبادرات التعبير عن الرأي في اختيار مرشحين غير صاحبه ألعابا بهلوانية ناشزة خارجة على طاعة مخرج السرك، والديموقراطية تزيين اصطناعي مستورد، "وفي البداوة حسن غير مجلوب"
فمحمد يحظيه يتظاهر بالزهد في الدنيا ، والله أعلم ونظن أنه ما سلك هذا المسلك "إلا ليبعث مجدا كاد يندثر".
وتعود الموريتانيون قراءة فكر ولد ابريد الليل في مناسبات يحددها هو دائما قبيل اوقات التغيير( كثر كلامك تعود ولي ) فلعل ذلك ما يعني بفكرة فيكتور هيكو التي يحين وقتها مع الزمن فتشكل قوة دافعة للأحداث التي تليها والتي تحددت وتشكلت قبل الفكرة نفسها.
ولنا أن نتسائل ما مصدر قوة هذه الفكرة ؟ هل هو في تشكيل الحدث ؟ أو تفسيره ؟ أوتوجيهه ؟ أو مسايرته ؟
فمحمد يحظيه مارس طرح الأفكار والآراء في قلب الحدث (حتى غدا كل حرف حين يكتبه .... يكاد حتى مع الأوراق يقتتل)
ولكن هل ماقدم من أفكار وآراء قدمه حين حان وقته ؟
فما بعد (الصواب ) إلا الخطأ .
محمد الامين ولد الداد