عمارة زين العابدين بالحي كاف باتت محج الكثيرين منذ اسبوعين تقريبا، لأنها المبنى المؤقت للرئاسة الغزوانية، العمارة التي شيدت في ظرف قياسي، أشعلت فوانيسها ومصابيحها فاختلفت عن جاراتها، يتجمهر أمامها لفيف من الناس غير المتجانسين، يحظى بعضهم بفرصة الدخول و بدون عرقلة لكن آخرين لم يدخلوها أبدا، ثم يصرون كل يوم على القيام بطواف يبدأ طواف قدوم حتى إذا غربت الشمس تحول إلى طواف إفاضة حزين، فالوطاب خاو و المعنويات في الحضيض، ومغرب الحي البرجوازي لايطاق، إذ يحيلك تلقائيا إلى شعور مهين بالدونية والاغتراب بين الشقق التي بناها البرجوازيون الأول ومن تمكنوا من دخول عمارة زين العابدين آخر في عهود خلت.
صاحب الملف الأصفر يذرع المسار بين اليونيسف والعمارة مرات ومرات، محاولا بتسياره إيهام العسس بأنه المتحدث باسم جماهير ملح المجيدة المكافحة، لم يقتنعوا أو ربما لايكترثون، السيدة التي تركن سيارتها في ظل الشجرة وتداعب هاتفها وتتصنع الضحك وكأنها في حوار مع شخص على الطرف الآخر، تتمنى أن يعتقدوا بأنها من الزمرة الحاكمة أو على الأقل الزمرة السائرة في طريق الحكم والحقيقة التي لم تعلن للعسس و إن اكتشفوها أنها من عدم الانحياز لكنها تريد هذا الانحياز وتسعى بطريقتها لنيله..شاب يعصر خاصرتيه بحزام جلدي أدخله بقوة في بنطال حريري يتوقف قبل الكعبين بأصبعين، بقي ابزيم الحزام معلقا فوق السحابة كحبل سرة لم يقطع، أما ربطة العنق فشرشف أصفر عليه صور لتفاحة وبطيخة وموزة ومشمش، كأنه ملاءة صفرة، وفوق هذا صدرية ضيقة على الصدر منفرجة عند البطن، إنه شاب انيق ومناضل جديد لكنه قادم بأحلام عشيرته هناك في الريف الطيب.
سيارات تناثرت بطريقة عشوائية في الساحة الجديدة المبلطة، وكل راكب أو سائق يشغل نفسه بالهاتف وعينه على خازن العمارة ورجال العسس، فمن يدري.! قدتتاح الفرصة لأحدهم، يحاولون جاهدين إلهاء و شغل الحراس تماما كما كان حالنا مع السينما ومع هبود والمسن الأبيض.
ثم فجأة تتوقف سيارات فارهة من طراز العام الحالي لكنها تقل أشخاصا من طراز القرون الماضية، إنهم قادة الوحدات ومصاصو دماء الفقراء والبائسين، هؤلاء لايظهر عليهم أثر النعم والمغانم لأنهم يمتصون دما لاحديد فيه و لاجزيئات مهمة، دم الفقراء غير خاثر و لا يفيد شاربه، لكنهم به يدخلون العمارة وسيلتقون الزعيم الجديد في لقاءات حفظوا نوتاتها وتمرنوا عليها خلال عقود، عجوز بالكاد يخطو وشاب قوي البنية وسيدة تسرع الخطى في الدرج وجلبة وضوضاء، هؤلاء فقط سيدخلون لأنهم يحظون بدعم وتوصية فلان.
تفيأ ذلك الرجل المحترق السحنة ظل شجرة من “شجر النصارى” وفتح “حصن الحصين”، وشرع يقرأ كأنه غير مهتم، غير بعيد من شابتين يبدو للوهلة الأولى أنهما مضيفتان في البيت بسبب تلوين وصباغة “واجهتيهما” أو وجهيهما، لكنهما باحثتان هما ايضا عن طريقة للوصول الى الزعيم. مزود العمارة بالأوراق والأقلام أصبح مليونيرا في أسبوعين كأنه يبيع القراطيس لمكتبة الحكمة، أما صاحب المحارم الورقية فسيشتهر قريبا كرجل أعمال ولد من العمارة الحبلى والتي لايعلم أحد كم ستلد من آثم.
على بعد أمتار قليلة من العمارة يصلي البعض على ميت قضى في المستشفى الوطني بسبب عجزه عن شراء الأدوية وشراء الأطباء، يصلي عليه للمفارقة وزير الصحة الخارج من العمارة، أما الغزواني فلا يصلي بمسجد شجرة الأنبياء لأن الإمام عمر الفتح إخواني وبالتالي غير محبب عند أهل الخليج. أما الفرنسية التي ترى المشهد من شرفة بيتها فتبش في وجوه الداخلين والخارجين لأن الدليل على نزاهة مايجري في العمارة هو إحساسها الشخصي بأنها آمنة وتستفيد من راتب كبير..لذا تضحك.
خارجون داخلون، متعبون منهكون، ضاحكون عابسون لاهون بالنظر إلى زجاج العمارة ومصابيحها وحواف الاينوكس الأملس، شقلبة و تدحرج و انزلاق على الرخام و ضحك جماعي من “الساقطين”الصاعدين، و تمضي الساعات على صاحب “بقالة عاطف” و هو يرسم اللوحة وينسخها بعينيه، ثم يعد نفسه بأموال طائلة سيكسبها من جيرانه الجدد خلال شهرين.
وعلى العكس من التاجر الحالم تكتشف صاحبة السيارة أن الشمس خانت العشرة و آثرت الاختفاء في مغربها و أن الليل في هذاالحي لايرحم الغرباء،كلب يهر وآخر ينبح و جرو يزمجر، عويل واعوال ورياح ابرد من قبر روسي.
الليل في العمارة للعمل والتدبير والتفكير في الحيل التي سيسوسون بها هذه البلاد التي عجزت أن تنجب رجلال يعجل بإرسال الشرذمة إلى جهنم حيث ينتظرهم اخوة لهم سرقوا ونهبوا وبطشوا من قبل. أما مافي العمارة فلايعلمه إلا الله أو الراسخون في علم التقرب من مشاريع الحكام، الأكيد انهم بالداخل يمارسون إشياء ليست مهمة لكن من بينها السياسة التي تعني فن الوصول إلى السلطة و فن المحافظة عليها.
عودي إلى بيتك، تدبري أمرك.. أطعمي أطفالك بالحكايا والوعود، فيومك لم يكن موفقا و لما تدخلي عالم الغزونة وسياسة الناس.
الباب أوصد
ذاك ليل مر
فانتظري سواه.