
بعد انتخابات 1992 الرئاسية والتي فاز فيها الديكتاتور معاوية ولد الطايع بنسبة 63% من الأصوات، وسط احتجاج المعارضة واتهامات بعمليات تزوير واسعة في أول انتخابات في تاريخ البلاد، دعا معاوية حينها إلى ضرورة رص الصفوف، ومواجهة المؤامرة على البلاد التي كانت مخابرات النظام تروج أن الزنوج يعدون لها. الزنوج الذين ذبحهم نظام ولد الطايع بدم بارد ورحلهم، متسببا بذلك في أعمق جرح إنساني في الاجتماعية خلال تاريخ موريتانيا الحديث ، والذين استقبلوه بالحجارة في مدينة كيهيدي في يناير من 1992.
طغت نغمة الأمن أولا على كل النغمات، وتم الزج بالمعارضين في السجون ومطاردتهم والتضييق عليهم. لم تكن هذه الممارسات تبشر بعهد من الديموقراطية؛ خصوصا أن البلاد خارجة لتوها من عملية اقتراع والتي يظن كثير من الموريتانيين بمن فيهم سياسيون أن الديموقراطية تنحصر فيها. “مجرد سير الاقتراع بشكل جيد وفي ظروف أمنية، ومجرد طرحي لملفي كمرشح يعتبر هذا نجاحا للديمقراطية” كهذا قال المرشح الشاب ولد الوافي بعد اقتراع 22 يونيو الأخير.
بعد 27 عشرين سنة من أول انتخابات رئاسية تعود موريتانيا إلى نفس الدوامة. مرشح للنظام والعسكر ورؤساء القبائل ينجح بنسبة 52%، وهي نفس النسبة التي فاز بها عزيز في مأموريته الأولى على إثر انقلاب 03 أغسطس 2005 أي أقل بنسبة 10% من ولد الطايع، ويبدأ النظام في تأزيم الوضع، وسجن المعارضين، وشيطنة المعارضة والزنوج من جديد، وقطع الأنترنت لتتشابه الظروف أكثر مع التسعينات من القرن الماضي، ثم يرفع النظام نغمة الحفاظ على الأمن وهاجس المؤامرة الخارجية والداخلية لدرجة أن الخارجية الفرنسية حذرت رعاياها من الاقتراب من أماكن التجمع العامة في موريتانيا.
نادت المعارضة بحوار استعجالي من أجل مستقبل البلد، ومستقبل الحريات فيه والممارسة السياسية، غير أن السلطات كانت مصممة على المضي بالتوتير إلى أقصاه.
تم القبض على رئيس حزب الجبهة الشعبية للتغيير (FPC)، والذي ما زال النظام وقوى اليمين يصرون على تسميته رئيسا ل”افلام”، رغم أن الرجل تبنى العمل السياسي بعد 27 عاما من المنفى في أمريكا، وبعد تفكك جبهة “افلام” تقريبا، ولم يبق منها سوى البعبع الذي تستخدمه السلطات لتبرير مقايضة الأمن بالحريات والحقوق.
إلا أن التضامن غير المسبوق من جهات سياسية وحقوقية مع الرجل أثناء، وبعد أسبوع من الاعتقال، جعل السلطات تدرك كم أن هذه الورقة محروقة، وهذه الأسطوانة مشروخة ثم “جنحت للسلم”، ومدت يدها للمعارضة من أجل إخراجها من المأزق الذي أدخلت فيه نفسها وأدخلت فيه موريتانيا، إذ إنه كان من المفترض أن يحدث انفراج سياسي بعد الانتخابات، إلا أنها اختارت التصعيد، والآن بعد أن وصلت الأمور إلى أقصاها، وأعلنت المعارضة أنها تمنح السلطات مهلة شهر (أي قبل تنصيب الرئيس المنتخب) من أجل الحوار، وإنه في حالة رفض النظام ذلك فإن للمعارضة خطة للتوجه إلى القضاء الدولي، وخططا أخرى للنضال على مدى السنوات القادمة على حد تعبير صالح ولد حننه في مقابلته مع إحدى القنوات التلفزيونية. الآن حكمت السلطات العقل وأدركت أهمية الاستجابة لدعوة الحوار.
بيرام وولد محمد خونا.. لعب في الوقت بدل الضائع
إن تصريح بيرام قبل ولد محمد خونه يعطي عدة رسائل يمكن قراءتها، فأولا هو تنازل رمزي من السلطات الرسمية من خلال منح المبادرة لممثل المعارضة للكلام أولا كنوع من الاعتراف بأنها طرف ندي، بل ربما هي الطرف الأهم في المعادلة من جهة اقتراحه للحوار. غير أنه أيضا يعطي إشارة واضحة بعدم وضوح الرؤية لدى النظام، فما يهمه هو الخروج من هذا المأزق بأية وسيلة، ولهذا من الأفضل أن يتحدث بيرام أولا ليكون كلام ولد محمد خونه مجرد هامش على تصريح بيرام، فانطلاقا مما يقوله ممثل المعارضة سيحدد ممثل النظام الاتجاه الذي سيصب فيه تصريحه، ولعل تأكيده على ما قاله “الأخ” حسب تعبيره يدل على ذلك بوضوح.
وإن كان ولد محمد خونا حاول أن يمرر رسالة مفادها أن السلطة هي الأقوى، وأن المعارضة هي من بادرت بطلب اللقاء كنوع من الإيحاء بأنها لا تحتاج النظام أكثر مما يحتاجها، والواقع أن اللحظة السياسية الراهنة (اتهامات بالفساد والتزوير، إطلاق سراح ولد امخيطير، دعوات لتحقيقات بشأن نهب ثروة البلاد خلال العشرية الأخيرة) ليست في صالح النظام المنصرف برئاسة ولد عبد العزيز، خاصة بعد سقوط نظرية المؤامرة في فخ الميوعة والابتذال، وبعد الإدارة الحكيمة للأزمة من طرف أقطاب المعاررضة الذين لم ينجروا رغم التجييش والاستفزاز وراء مخططات النظام..
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه، ما الذي يستطيع أن يفعله نظام يلفظ أنفاسه الأخيرة لمعارضة خارجة للتو من انتخابات تصفها بالتزوير؟
وهل تعبر المطالب والاقتراحات التي طرحتها المعارضة عن حجم الأزمة، وترقى إلى مستوى الشرخ الاجتماعي والمناخ السياسي المأزوم للبلد؟..
ثم هل يفاوض نظام ولد عبد العزيز المعارضة باسم ولد الغزواني، أم أن الاتفاق الذي قد تصل إليه المعارضة مع ولد عبد العزيز في أسبوعيه الأخيرين في السلطة لن يكون ملزما لولد الغزواني الذي سيحكم خلال السنوات الخمس القادمة؟
رغم أن المعارضة نجحت إلى حد بعيد في تسيير مرحلة ما بعد الانتخابات، إلا أن الحوار مع ولد عبد العزيز وحكومته ليس من الحنكة السياسية في شيء، ما لم تكن هناك ضمانات من ولد الغزواني باحترام ما سوف يتوصل إليه، وأعتقد أن نكث ولد عبد العزيز بعهوده للمعارضة خلال السنوات العشر الأخيرة لا يعد جسر جيدا لبناء الثقة بين الطرفين.
أغلب الظن أن ولد عبد العزيز يريد أن يختم عشريته بصورة المحاور والرجل الجامع بين الطرفين المتنافسين، غير أن الوقت المناسب لذلك قد فات، ولن تعدو هذه المحاولة إلا لعبا في الوقت بدل الضائع بنفسية مهزومة ولياقة بدنية متدنية للغاية، خصوصا أن جدية القضايا المطروحة من طرف المعارضة (المسلسل الديموقراطي، حقوق الإنسان، التعايش ومستوى حياة المواطنين) من الأهمية بحيث لا يجب نقاشها مع رئيس يعيش أيامه الأخيرة في القصر الرمادي، وإن كانت بعض المطالب يمكن لهذا النظام القيام بها كبادرة حسن نية مثل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وإلغاء المتابعات القضائية للمعارضين في الخارج.
ويبدو أن المعارضة حسب تصريح بيرام الداه اعبيد كانت جاهزة لمثل هذا الحوار، حيث تحدث رؤية منسجمة تؤسس للعلاقة بين النظام والمعارضة لدرجة أنه تم خلق لجان لهذا الغرض، ستطرح هذه الرؤى والاقتراحات في حوارها مع الحكومة بالتفصيل. كما أن تفريق بيرام بين النظام والحكومة في نهاية كلامه عندما قال ” النظام الذي يمثله الوزير والحكومة التي يمثلها” ربما فيه إشارة إلى أن الحوار لا يجب أن يرتبط بسياق زمني معين أو بشخص محدد، بقدرما يرتبط بمؤسسة الحكم ذاتها.
هل المعارضة حصان طروادة عزيز..؟
رغم أن ولد عبد العزيز حكم البلد لعشر سنوات متتالية، إلا أن هذه السنوات لم تكن هادئة بالمجمل، ففي كل يوم احتجاج أو مظاهرة أو هما معا. حزمة من الأزمات عصفت بالبلد في عهده كانت كلها انعكاسا للانسداد السياسي، والتقهقر الاجتماعي، والاستثراء الفاحش لحاشيته مع تفقير متعمد وممنهج وغير أخلاقي للقاعدة الواسعة من المواطنين والموظفين الصغار، هذا إضافة إلى انهيار تام للتعليم والصحة وتمييع البنى التحيتة ونهب المليارات في صفقات التراضي، والقضاء على المعارضة التقليدية والمدنية، وإفساد الحياة السياسية في البلد.
أمام الحصيلة المهولة يشعر النظام بأن تركه للسلطة لن يكون مجرد تغيير موقع، ولذا يحاول أن يجد أكبر إجماع سياسي واجتماعي يضمن له التغاضي عما قام به في هذا البلد، ومن هنا يمكننا أن نفسر سبب استدعائه للفقهاء ليستصدروا له فتوى مدفوعة بإطلاق ولد امخيطير، وكذلك مده اليد للمعارضة من أجل التأسيس لحوار بينها وبين النظام القادم، أولا من أجل إثبات حسن النية وثانيا لتمرير رسالة مفادها أن هذا النظام مجرد “استمرار للنهج” وأي نهج؟!
لكن لا اعتقد ان المعارضة من السذاجة بحيث لا تتنبه لمثل هذه الأغراية التي تطبع نظام ولد عبد العزيز، والذي فيما يبدو سيفاجئ الجميع في أيامه الأخيرة بقرارات غير متوقعة، من قبيل ما رايناه مؤخرا من تعيينات وترقيات.
أسئلة المستقبل القريب..
محاولة للتوسل بالمعارضة للتملص من مسؤوايته المباشرة عما آلت إليه الأوضاع، ومحاولة للتشبث بأي شيء في اللحظة التي تغرق فيها السفينة قبل أن يقفز منها الركاب. هذا ما يحاول نظام ولد عبد العزيز في أيامه الأخيرة، ولكن الأسئلة الملحة والتي نطرحها جميعا هي: هل ستكون المعارضة على قدر التحدي أم أنها ستظل رهينة لردود الفعل ثم المقاطعة حتى يفوز غزواني بمأمورية ثانية بنسبة فوق 82% كما فعل فعل عزيز 2014 في مأموريتيه الثانية في ظل مقاطعة للمعارضة، أو كما فعل معاوية ولد الطايع سنة 1997 عندما فاز مرة ثانية بنسبة 90% في ظل مقاطعة المعارضة أيضا لللانتخابات؟
وأين موريتانيا وصداعاتها من كل هذا؟.. أين سكان أحياء الصفيح المتفاقمين في فقرهم ومرضهم وقماماتهم مما يحصل؟
وأين موقع الانهيار الكلي للتعليم والصحة والبنى التحتية والفوقية مما يجري ومن الحوار المرتقب؟
وأين أهل أهل آدوابه ومن نهبت المليارات في وكالة التضامن باسمهم، وما مصير الثروات التي تم نهبها على مدى عشر سنوات من حديد وذهب وسمك وحتى تعويضات الجنود والشرطة الذي يموتون على أراض غير اراضيهم في غابات واغادو بمالي، وفي دارفور ووسط أفريقيا؟..
أم أن الفيتو الأبدي لكل مجرم لدينا ما زال جاهزا ليمحو كل الآثام بجرة قلم: “عفي الله عما سلف”؟