كانت الشمس تتهاوي للغروب ، تتسلل من السماء رويدا رويدا ... ترسل خلفها اشعة ذهبية "أخاذة " تبعث البهجة والاغتباط في نفس الناظر الكبير ، وقليلا من الخوف والتطلع في قلب الطفل الصغير ، كان قرصا مكتملا في صفرة كصفرة الذهب الخالص في منظر يشد أنظار المتاملين وهم يرقبون خمرة الغروب كما تقول جماعة أهل الأدب ، في ما كانت خيوط الليل علي الابواب تحاول التسلل خفية من خلال ضوء الشمس الآئل الي التلاشي ، خيوط بدت وهي تنسج أبهة الليل البهيم ينسلخ منه النهار.
كانت الوالدة العزيزة -حفظها الله - قد دخلت في لحظة صمتها المعهود في ذلك الوقت ( اتصيفيط) الملائكة ، وقد اتجهت نحو القبلة فملت انا الى ذراعها مما يلي الظهر اعبث بالأرض ، ومن حين لآخر تشدني فطرة التامل الى قرص الشمس حمراء نقية تنحدر شيئا فشيئا....
وفي ما أنا كذالك بين لهو عابث بثيات أمي وتأمل صبياني إذ ترآي لي عن بعد فارس مستقيم الجلسة مرفوع الرأس يسراه يشد بها العنان وبيمناه توكأ على قطعة من الخيزران تعتمد قوائمه على قدميه المتمكنتان من الركاب يهمس بمؤخرته احيانا فيتوثب الجواد وأرجله تخلف بعضها بعضاكأنها انامل عازف يصنع بها الايقاع ، بدت لي ناصية الجواد وقد سال بينها وبين الأنف الواسع مربع ابيض نوراني وتحت الرقبة الممشوقة والخيشوم الحديد بدت لبته الواسعة مع (قوائم رواء لا تجارا )ومن خلفه عمود النقع الذي احدثته حوافر وهو يرسم اشكال هندسية مختلفة .
بدا لي وقد اصبح الفارس القادم قاب قوسين أو ادني ان القادم هو الوالد العزيز -رحمه الله- فتركت ظهر أمي وهرعت نحوه انتظر هدية طالما عودني عليها كلما غاب وعاد ... كانت دراعة بسيطة تلتف حول عنقي تنزاح من حين لآخر عن جل – إن لم يكن كل – جسمي ، نزل الوالد من على صهوة جواده فأسرعت نحوه فلم يلتفت نحوي ولم يقدم لي ولا لاخواني ما كان يعتاد حمله لنا من المدينة ، بدا لي الامر مختلفا لكنني لم افهم اي شيء فتبعت ابي الذي كان – رحمه الله - يستمتع بان يرانا سعداء بمقدمه نستبق ما يحمل قبل تقسيمه بيننا فيكثر الحمد لله والثناء علي رب العالمين ، وقد عرفت فيما بعد انه كان شكورا لربه على ما رزقه من ولد . بادرت اختي الكبري لتضع له المتوفر من الفراش فدعا بوضوء فأفرغ كعادته على وجهه بكلتايديه وكان رحمه الله يطيل الغرة وكان وجهه واسعا صبوحا يشع بهجة وجمالا ، جمال القبول ونور العبادة وأثر الفتوة وان تسللت التجاعيد الى جبينه.
جلس الوالد بصمت كالمغضب ، لم يجرأ احد علي الحديث وبدا أن ثمة شيء غريب ، اطالت الوالدة النظر كانما تستنطق امرا ما فهي - حفظها الله – تمتلك احساسا غريبا بمن يحمل خبرا أليما وان كتمه او حاول التستر عليه .
اخيرا حزمت أمرها وقطعت صمتها ملتفتة نحوه قائلة "إياك ماانعيت حد مشهور" ... ؟ أجابها الوالد وهو يعيد يديه من الأعلي بعد رفعهما الى السماء بعد الوضوء وهو يقول : "اصنادر حكمو المختار اليوم " .....
اجابته الوالدة بصوت حزين : "انا لله وانا اليه راجعون " ثم قام يمشي نحو المسجد الذي لم يكن يومها سوي "زريبة " أقيمت للصلاة التي تقدم لإمامتها فأتمها كعادته بروية تختلف عن عادة البدو في السرعة ، فهو رحمه الله يحسّن الركوع والسجود ويطيل الدعاء وعند السلام وبعد سبحة الصلاة اخبر شيخ القرية والقائم على امرها خله الشيخ الحسين حفظه الله بالخبر الذي اجمعوا على انه فاجعة وقد أوصلهم التحليل الى ان النصرانية لن تسكت على الانقلاب وان دولتها ستنتصر لها وللمختار فتعيده الى الحكم وأشياء من قبيل هذه الافكار .....
كان من عادة الوالد رحمه الله التي داب عليها مُذ عقلت عليه حتى لحق بالرفيق الأعلى ان يدخل في نافلة ما بين المغرب والعشاء ويقرأ فيها خمسة احزاب ثم يؤذن المؤذن وتتم صلاة العشاء فيبادر الى المنزل يتناول ماتيسر علي عجل ثم ينام مباشرة ليستيقظ في حدود منتصف الليل لكنه في تلك الليلة انشغل مع من في المسجد بالسياسة وتحليل مآلاتها حتى اذن لصلاة العشاء ولعلها كانت اول درس لي في سماع السياسة والتحدث عنها وقد كان عمري يومها في حدود ثمانية أعوام حسب ما أخبرتني الوالدة.
تذكرت هذه الأيام ذاك الاثنين المحفور في ذاكرتي وتلك القصة الماثلة أمامي كانها الامس القريب وانا اسمع اللغط الدائر حول الرئيس المؤسس المختار ولد داداه ووطنيته ومكانته في القلوب . ان قصتي عميقة الدلالة في ان المختار كان محبوبا بحق من كل الموريتانيين على اختلاف مشاربهم وجهاتهم فتلك القرية الوادعة الهادئة شرقي جكني بسبعة كيلو مترات والموسومة بحاسي الخالفة اشغلها تلك الليلة الانقلاب على المختار عن نوافل اَهلها العباد وأدخلهم في حزن مبرح غير متكلف ولا متقرب به لأي كان فلا الوالد رحمه الله من أهل حزب الشعب ولا له صلة بالسياسة أواخواتها .. لكنها القلوب الصافية والحب الصادق ...
أما محطات المختار الكبري وعلاقته بفرنسا وعلاتها فذاك حديث من تامل تفاصيل ما جرى فيه من مواقف لن يجد العناء في ان يقر بان قيادة من طينة وطنية خالصة دبرته بعبقرية وحكمة واقتدار.
بقلم: محمد غلام الحاج الشيخ