يتندر قدماء وزراء الوظيفة العمومية و مدراؤها العامون و بسطاء عمالها،... بالعديد من الملح و الطرف و الغرائب و العجائب،... حول تعامل كبار الموظفين مع استشعارهم أو إشعارهم ببلوغ "العمر البيولوجي" أو " العمر المهني" المؤذن بالرحيل من دنيا الوظائف السامية إلي عالم التقاعد و البطالة و "الانتظار"...
فمن المتواتر عليه عند عمال الوظيفة العمومية مثلا أن أحد الموظفين السامين جدا بادر عند استشعاره التقاعد إلي تدبيج رسائل إدارية معززة بوثائق حالة مدنية جديدة "نقص فيها من عمره نقصا" حتي بينت مقارنة حالته المدنية الجديدة مع مساره الدراسي أنه حصل علي الباكلوريا في سن الثانية عشرة!! و أن الفارق العمري بينه و بين ابنه البكر لا يتجاوز عشر سنوات!!...
كما يتحدثون عن موظف سام آخر أقام دنيا السياسة و الإعلام و الصالونات و لم يقعدها وقدم طعنا مسببا يتهم فيه بعض عمال الوظيفة العمومية بالتمالئ مع خصومه السياسيين من خلال تعجيل رسالة إحالته للتقاعد بثلاثة أسابيع فقط!!.
و يتحدث علي نطاق واسع عن تدافع أطر الوظيفة العمومية لمسؤولية التنبيه علي تقاعد الموظفين السامين خوفا من عتبهم و حنقهم و انتقامهم... كما يتحدث علي نطاق أوسع عن نوبات حسرة و قلق و احتجاب عن الأضواء و " توار من الأقوام"... تنتاب الموظفين السامين إذا " بشر" أحدهم بالتقاعد...
لكن "شجرة" الطرف و الملح و الغرائب هذه -علي تواترها- يجب أن لا تخفي "غابات" من الكبرياء و الأنفة و المسؤولية لدي ما يمكن تصنيفها إلي ثلاث مجموعات من الموظفين السامين.
أولاها موظفون سامون عديدون رفضوا الاستمرار في وظائفهم دقيقة واحدة بعد التقاعد و ثانيها جماعة معروفة بالكفاءة و الاستقامة حرمت حق الترقية الداخلية المؤدية إلي تأخير سن التقاعد رغم استيفاء كافة الشروط فتجرعت الحيف بكل مسؤولية و إباء و ثالثها جماعة تتمتع بمستوي مجمع عليه "فوق العادة و خارج المألوف" من الكفاءة و الأمانة و التجربة الموفقة يؤهلها للاستفادة من حق "التمديد الاستثنائي للعمر المهني" لأنها مما لا يستغني عنه فلم توف حقها و لا استحقاقها!!
وتأسيسا علي واجب توقير الكبار عموما و كبار الموظفين خصوصا الذين أعطوا زهرة أعمارهم لخدمة الوطن مقابل "راتب مادي " لا يختلف اثنان علي هزاله و تواضعه و رمزيته Paid peanutsو ما يفترض أنه " راتب معنوي" من التقدير و الجاه أجهزت عليه لوثة و موضة " الدكتاتورية المالية الحالية" حتي أضحي الموظف العمومي السامي اليوم في وسط السلم الاجتماعي إن لم يكن في أسفله.
فإنه يتعين التفكير في حزمة من الإجراءات لإصلاح نظام تقاعد الموظفين عموما وكبار الموظفين خصوصا الذين مثلوا في مرحلة ما هيبة الدولة و سلطانها بما يحفظ لهم " أعراضهم المهنية" و سأكتفي هنا بالإشارة إلي عناوين بعض المقترحات التي تحتاج بالتأكيد في مناسبات أخري إلي الإثراء و الاستقصاء و التفصيل و التحليل...
أولا: عصرنة نظام تمويل التقاعد: و ذلك من خلال اتخاذ قرارين أولهما زيادة نسبة المساهمة الأصلية لكبار الموظفين في صندوق التقاعد بما يضمن زيادة " مخصص التقاعد" الذي يتقاضاه كبار الموظفين حين التقاعد.
و ثانيهما إنشاء صندوق يدعي " صندوق الخروج من الوظائف السامية" يتم تمويله بمدخلين: المدخل الأول هو راتب شهرين يقتطع من الموظف السامي كل سنة من سنوات مأموريته في الوظائف السامية ( و أقصد هنا صافي الراتب و ليس الراتب الاساس ذلك أن صافي راتب الوظائف السامية تمثل علاوة الوظيفة نسبة 90% منه أما الراتب الأساس فلا يمثل غالبا أكثر من 10%).
أما المدخل الثاني فيعادل صافي راتب شهرين أيضا تدفعه إدارة الميزانية عن كل سنة من سنوات الانتداب في الوظائف السامية و لا تمكن للموظف السامي الاستفادة من هذا الصندوق إلا بعد " الخروج" من الوظائف السامية و ذلك ضمانا لمواصلة الموظف السامي لشيئ من الاستقلالية المالية بعد الخروج من الوظائف السامية و لو لفترة غير طويلة و هو نظام ناجع مجرب ومعمول به في العديد من الدول الأوروبية ؛
ثانيا: خلق صندوق مالي لدعم مخصصات تقاعد الموظفين: يتم تمويله من خلال تخصيص نسبة من عائدات الثروات الطبيعية لرفع مخصصات تقاعد الموظفين عموما و كبار الموظفين خصوصا و ذلك إلي حين إصلاح نظام التقاعد و ضمان تمويله من خلال رفع و ضبط ادخار المساهمات الأصلية للموظفين؛
ثالثا: تخصيص نسبة 50 % من رؤساء مجالس الإدارة لكبار الموظفين المتقاعدين: و يتعين هنا اتخاذ مسطرة تنظيمية دقيقة و صارمة لضبط ولوج المتقاعدين من كبار الموظفين إلي هذا الامتياز بدء بتعريف دقيق للموظف السامي الذي ينبغي أن يقتصر علي الموظف العمومي الذي ولج الوظيفة العمومية من باب المسابقة لا من نوافذ السياسة و المحسوبية و الوساطة،... وتقلد وظائف سامية كالوزير أو السفير و نحوهما...علي أن تكون اللائحة محدودة من أصحاب الصفة حتي لا يتم تمييع و ابتذال مقام المؤهلين لهذا الامتياز الهام.
و مرورا بتحديد ضوابط الأسبقية في التعيين في وظائف رؤساء مجالس الإدارة حسب حزمة من المعايير العادلة منها مثلا لا حصرا: درجة الشهادة العلمية؛ عدد سنوات مزاولة الوظائف السامية؛ نظافة السجل المالي و الإداري؛ عدم تجاوز عمر 75 سنة واستحالة إمكانية الاستفادة من أكثر من مأمورية واحدة لرئاسة مجلس إدارة ضمانا للتناوب و التداول و استفادة جميع أصحاب الأهلية من هذا الامتياز.
رابعا: تخصيص نسبة 25% من الاستشارات والدراسات العمومية لكبار الموظفين المتقاعدين المتوفرين علي الأهلية: وذلك من خلال اتخاذ مساطر إدارية أو لوائح تنظيمية تمنح المتقاعدين من كبار الموظفين الأسبقية المشروطة بالأهلية في نسبة 25% من مناقصات الاستشارة و طلبات الخبرة و الدراسات التي تطلبها المرافق العمومية أو الهيئات التي تكون المرافق العمومية شريكا فيها؛
خامسا:محاربة ازدواجية المعايير في التعامل مع أصحاب المأموريات السامية من الموظفين و غير الموظفين: إذ من غير المعقول أن يتم تطبيق قوانين الإحالة إلي التقاعد علي أصحاب المأموريات السامية من الموظفين العموميين الذين ارتبطوا "بعقد مدي الحياة" مع الدولة و أفنوا فيها ربيع أعمارهم رغم هزال الراتب المالي و تدهور قيمة " الراتب المعنوي" كما أسلفنا في حين يعفي نظراؤهم من غير الموظفين من التقاعد حتي و لو تجاوزوا بكثير "العمر البيولوجي للتقاعد".
ويحدث كل ذلك مع أن تعيين غير المنتسبين للوظيفة العمومية أصلا في الوظائف العليا فيه الكثير "مما يقال" قانونا و عرفا.. و شهد تطورا كبيرا يحتاج إلي الصرامة في التقدير و الضبط و التحرير.
أقول مقالتي هذه و أنا مازلت في منتصف مشواري المهني –حفظ الله و بارك- لا تحسبا لقادم و لا طلبا لمرغوب و إنما غيرة علي قطاع الموظفين السامين و انتصارا لهيبة الدولة و وقار رموزها و استحضار لواجب الشفقة و الرحمة "بكبير قوم "تقاعد".
المختار ولد داهي
سفير سابق
خبير تحليل و تقييم السياسات العمومية