هم في كل التظاهرات.. هم حراس البوابات الاعلامية الخصوصية والعمومية.. تجدهم في أروقة كل الفعاليات.. موالون مع الموالاة.. معارضون مع المعارضات.. منزلة بين المنزلتين مع المجتمع المدني والمنظمات الدولية
.. منهم جهاديون وأصحاب برص وسماسرة ودعاة ومقاولون.. منهم حالمون وعبثيون وواقعيون.. منهم متشعوذون ومصارعون وعجزة.
هم في كل مكان ولكنك حين تبحث عنهم بمركاتهم المسجلة “البشمركه” لا تجد منهم أحدا بل لا تجد من يرضى بأن يكون منهم أو يتحدث باسمهم رغم ان الوقائع وكل المعاينات الميدانية لرعية صاحبة الجلالة وداخل دهاليز مهنة المتاعب تثبت أنهم الأغلبية والأغلبية الكاسحة من ممارسي مهن الاعلام المختلفة في موريتانيا الجديدة.
فمنهم البشمركه؟ وما علاقتهم باتساع فضاء الحريات الاعلامية في بلاد المنارة والرباط؟ وأية ظروف أو جدتهم؟ وهل هم غيمة نشأة عابرة؟ أم هم ظاهرة متجذرة؟ وهل تسميتهم دالة على المسمى؟
البشمركه: نبتة أنبتتها عبثية حرية الصحافة ولم يتعهدها أحد
تطلق كلمة “البشمركة” pêşmergeبالكردية على مجموعات كردية مسلحة وتعني حرفيا “الذين يواجهون الموت” واصطلاحا اطلقت التسمية على مفارز الصحافة الخاصة الأولى في موريتانيا التي أنتجها قانون حرية الصحافة الصادر سنة 1991م والتي غطت رئاسيات 1992م المتعددة تلك الرئاسيات التي شهدت لأول مرة تنافسا شديدا بين نظام معاوية ولد الطايع ومنافسيه بقيادة أحمد ولد داداه، فخلال تلك الانتخابات كان قد رخص لـ 230 جريدة ومجلة، حاول الحملاتيون في المعسكرين استخدامها بكل الطرق الأخلاقية وغير الأخلاقية.. وحاول القائمون عليها استغلال الفرصة لتحقيق مكاسب مادية، كان النظام في حينها يجند الصحافة الجديدة ترغيبا وترهيبا لتمرير ما لا يريد تمريره عبر وسائل الاعلام الرسمية، وكانت المعارضة تستخدمها لتخفيف حدة اقصائها من طرف الاعلام الرسمي الذي كان شقه المسموع المرئي محتكرا من طرف الدولة، وحاول آخرون من دون هؤلاء وأولئك استخدام “المتكلمين الجدد” لتحقيق غايات وأغراض أخرى.
وعندما ارتفع الطلب على مثل هذه الخدمات الاعلامية المصنفة وغير المصنفة تنامي العرض بصورة لم يسبق لها مثيل وسنرى لاحقا أن لذلك ما يبرره موضوعيا، لكن المهم أن موضوع تصنيف الصحافة الجديدة التي كانت ورقية في معظمها اصبح مطروحا بإلحاح، فوصفت الظاهرة الجديدة بالصحافة “الخاصة” والصحافة “المستقلة” والصحافة “الحرة” وصحافة “آسواقه” وصحافة “الإشاعات” وعند ما طفح كيل الممارسات المنحرفة أطلق على القائمين عليها “البشمركه” والغريب أن المصطلح في البداية أطلق من قبل زملاء مارسوا المهنة بقدر من الرزانة ولكنهم ضاقوا ذرعا بالإنتماء لهذا “الكوكتل” المسمى الصحافة المستقلة.. كان “الشباب” يسبقونهم لولائم السياسة والاشهار بأعداد كبيرة وبممارسات شبه عسكرية وكان بعضهم قد أسند ظهره على دعامات الأجهزة الأمنية التي كانت فاعلا أساسيا في شارع الصحافة وكانوا لا يتورعون عن أي شيء.. وبينما كانت تجري أم المعارك في بلاد الرافدين يتابعها الرأي العام باهتمام بالغ نصرة لـ “صدام حسين” الذي ناصر موريتانيا في أوقات صعبة ويلعب فيها البشمركة الأكراد دورا غير مصنف في خدمة الغازي كانت أم معارك اخرى تدور في أروقة مهنة المتاعب في موريتانيا وبدأ مصطلح البشمركة يطلق على افواج الصحف الموسمية والمؤسسات الاعلامية المحفظية التي أغرقت الشارع الموريتاني وسلكت كل الطرق للإنفراد بكل الموارد التي كانت شحيحة وتمنح بطرق “بشمركية” مذلة.
مسوغات “التبشمرك” وأسبابه
لتنامى ظاهرة البشمركه اسباب مجمع عليها منها:
ـ اتساع فضاء الحرية الاعلامية الغير مؤطرة التي لم تواكبها اجراءات مؤسسية في معظم الاحيان ولا سياسات اعلامية واضحة الأهداف ولا ضوابط محددة فلم تكن الحرية على اهميتها فعلا للتحرر بل كانت نوعا من انفراط عقد قيم التواصل السائدة في مجتمع موريتانيا ما بعد صدمات الجفاف والتحضر القسري في مدن غير مضيافة وتحت وصاية أنظمة لا ترى أبعد من مرتكزات بقائها.
ـ اكراهات التعددية السياسية والاعلامية في مجتمع قبلي فئوي قد لا يتقبل التعدد في شكله المؤسسي وإنما يحتويه ويستوعبه ليصهره في خضم المنظومة القائمة رغم ترهل بعض حلقاتها وفضفضة قيمها ومرتكزاتها أثرت هي الأخرى.
ـ تزايد مخرجات التعليم الجامعي وانحسار مجالات التوظيف في القطاعات الأخرى أوجد جحافل عاطلة من حملة الشهادات يستعد معظم أفرادها للقيام بأي شيء.
ـ غياب الاستثمار في المقاولات الاعلامية التي خلقها القانون شكلا ولم تتوفر لها عوامل الوجود المادي.
ـ ندرة مصادر التمويل الذاتية للمقاولات الاعلامية وهشاشة تسييرها.
ـ غياب الضوابط المهنية وتحول الصحافة إلي مهنة لمن لا مهنة له.
ـ استمرار السلطات في تمييع الممارسة الاعلامية من خلال استصدار نصوص تنظيمية تمنح صفة قائد الرأي والمدير الناشر والصحفي لمن هب ودب دون اخضاعه لأي تربص ودون مطالبته بأية ضمانات مادية أو اخلاقية.
كل هذه العوامل وغيرها اذكت ظاهرة “البشمركه” التي أصبحت وعاءا فضفاضا تركن فيه كل الممارسات اللاأخلاقية لممارسي الصحافة، وستتطور هذه الممارسات لتوجد “بشمركه” داخلية هي موضوعنا وبشمركه خارجية تحتاج إلي تحقيقات أخرى.
وحسب ما توصلنا إليه من تقديرات في تحقيقنا الميداني فإن اعداد البشمركه أعداد مطاطية تتمدد في اجواء الحملات وتتقلص في الأوقات الأخرى ويقدرهم (صحفي موريتاني) فضل عدم ذكر اسمه بحوالي 4500 شخص 20% منهم من النساء ويتركز معظمهم في انواكشوط ويتوفرون نظريا على 1200 عنوان صحفي مرخص معظمها لجرائد ورقية متذبذة الصدور و300 منها لمواقع إلكترونية من بينها حوالي 75 عنوانا استفادت من دعم عمومي عيني على مدى السنيتين الأخيرتين منها بعض الاذاعات والتلفزات الخصوصية التي أو جدها تحرير الفضاء السمعي البصري والتي لم تتجاوز لحد الآن سقف تقديم خدمات مسموعة مرئية لما قدمه “البشمركه” عبر وسائلهم الورقية والإلكترونية كما استفادت 137 عنوانا ورقيا على مدى عشر سنوات الأخيرة من تخفيضات تكاليف الطباعة ومن بعض الاعفاءات الضريبة.. وطبعا استفادت عينة من البشمركه الواصلين من اكراميات كبيرة منحت حسب معايير الزبونية والولاء وأحيانا تقديم الخدمات الخاصة والخاصة جدا.. وقف تعبيره.
وحسب نفس المصدر فإن أكثر من نصف مجموعة البشمركه يحملون شهادات جامعية في مختلف مجالات العلوم الانسانية وحوالي 3% منهم يحملون شهادات مختصة في مجال الاعلام بينما لا يتوفر 21% منهم إلا على مستويات الثانوية العامة.
وغني عن القول بأن هذه الأرقام تؤخذ بتحفظ شديد رغم وجاهة مصدرها.
وخلال السنوات الأخيرة خضع بعض البشمركة لتربصات وتكوينات إلا أنها ظلت قليلة التأثير لقصر فتراتها ولتكاثر طبقة البشمركه المستمر فهم طلاب عمل دائمون رغم امتهانهم لمهنة الصحافة وكثيرا ما يستغلون أية فرصة داخل البلاد أو خارجها، فالصحافة بالنسبة لبعضهم مجرد محطة عبور.
سجل.. أنا “بشمركي”.. وكلنا “بشمركه”
يرى أحمد ولد المحجوب البشمركي الذي نورد رأيه دون تصرف أن كل قوانين الصحفة من قانون 1961م مرورا بقوانين 1973م وقانون 1991م وكل القوانين والنصوص وصولا لقانون تحرير الفضاء السمعي البصري 2010م ما كان لها أن تخلق غير البشمركه لأن ايا منها لم تصاحبه سياسات واضحة أو اجراءات مواكبة فكانت بمثابة إلغاء شخص بدوي في لجة بحر متلاطم الأمواج والتفرج عليه وهو يغرق ومده من حين للآخر بأطواق نجاة تبقيه على قيد الحياة ولكنها لا توصله لبر الأمان.
ويذهب إلي أن معظم الهيئات النقابية والتجمعات المهنية وهيئات المتابعة والاشراف هي محصلة للموجود وهي زوائد خارج مجرى صنع الحدث الاعلامي ولا تؤثر في جوهر الممارسة الاعلامية المنحرفة كما أن ما يسمع من حين لآخر من حديث عن أخلاقيات المهنة هو كلام في الهواء لأن فاقد الشيء لا يعطيه خاصة إذا كان ضالعا في الممارسات التي يريد إزالتها، ولكل مجتمع صحافته التي يستحق ومجتمعنا يعاني من انهيار منظومته الاخلاقية الكلية ولا ينتظر من البشمركه على ما هم عليه من اقصاء وتهميش أن يوفروا منظومة بديلة.
ويرى بأن كل الفاعلين الاعلاميين والسياسيين والاقتصاديين والعسكريين والأمنيين والتجار والسماسرة عبارة عن مجموعات من البشمركه تتموقع في كل القطاعات فانتحال صفة المفتى والفقيه أوجد بشمركة فقهية وتحرير الصحة والصيدلة أو جد بشمركه صحية تغرق البلاد في الأدوية المزورة والتعليم الفاشل مشتل البشمركات وبشمركة التجار تغرق البلاد ببضائع منتهية الصلاحية والبشمركة الأمنية تلهث وراء التحصيل والبشمركه العسكرية تصحد النياشين والرتب تكدس الأموال وتحتكر السلطات والبرصات كرتلات بشمركة والصيد فضاء حر لبشمركة مافيوية.. وللصناعات الاستخراجية المنجمية بشمركتها الخاصة.. وللزراعة المروية بشمركتها.. وللبنوك بشمركتها.. وللسياحة والرياضة بشمركاتها.. وللدعارة بشمركتها.. وللشعوذة بشمركتها.. وحتى العنصرية والفئوية.. أصبحت تدار من طرف بشمركات هدامة والمعارضات تحولت إلي بشمركات.. والموالاة عبارة عن بشمركات متصارعة… إنه عهد البشمركة وإلقاء التهمة على الصحفيين الأكثر هشاشة يقول ولد المحجوب هو من قبيل اسقاط ما تعرفه في نفسك على الآخرين.. الأمر أعمق بكثير وربما يكون خطأ البشمركه الأعلامية هو عجزها عن تعرية البشمركات الأخرى ولو كانت تمكنت من ذلك لكان عرف من هو البشمركي؟ ومن هو قائد الرأي، فوضع بشمركي يحصد المليارات يحجب الأقوات مع مشروع بشمركي اعلامي صغير لا يحصد إلا الإشاعات وفي أفضل الاحوال بعض الفتات في سلة بشمركية واحدة ظلم وإجحاف وكيل بمكيالين وقد سلب الصحافة في هذا الزمن حتى حرية التبشمرك.
من البشمركة إلي الجنجويد
التحول سنة الحياة والبشمركي بطبيعته إنسان ديناميكي متحول ويرى (محمد عالي ولد أحبيب – طالب صحافة) أنه عندما يكون البشمركي راجلا ويحمل مؤسسته الاعلامية في محفظة صغيرة أو جهاز محمول مستعمل ويشهر بطاقة موقعة من مدير نشر مؤسسة لم يسمع بها أحد يكون فعلا بشمركيا حقيقيا أما حين يشترى سيارة ويؤجر مكتبا ويدخل مقايضات وينشر مواضيع لصالح هذا الطرف ضد ذاك ويدعى البيات الوظيفي فعندها يتحول جنجويدا ولمن لا يعرف الجنجويد فهي مبتكر أنتجته مصانع صراعات دافور وهي عبارة عن تجميع كلمات رجل وفارس وكلاش نكوف .
فالجنجويدي الموريتاني فرسه سيارة مستعملة على مراحل وسلاحه قلم مترهل ولسان سليط وقد يتطور الجنجويدي المغوار إلي صاحب مؤسسة أو مسؤول جمعوي أو أي شيء آخر لكنه يظل جنجويديا مهما تغيرت أحواله فمنهم من حصل على أرفع المناصب الاعلامية ولكنه ظل يمارس عاداته البشمركية الجنجويدية القديمة، فمن الصعب أن تتخلى عن شيء مهما كانت طبيعته أوصلك لتحقيق غايات، ومن الصعب إذا لم تحقق أية غاية أن تتخلى عن الشيء الوحيد الذي بقي لديك وفي هذا النوع من الممارسات لا منزلة بين المنزلتين.. البشمركي مكره لا بطل.
ما علاقة حرية الصحافة بكل هذا
إن سوء استخدام حرية الصحافة من أسباب انحطاط الاعلام الرئيسية فموريتانيا زرعت من حيث لا تدري بشمركة يعوزهم العتاد والعدة لخوض الحرب الاعلامية العاتية في زمن العولمة الموار وحصدت جنجويدا لا يلوي على شيء يحرق الثوابت ويعبث بالمتغيرات.. وهذه ثمرة شجرة حرية زائفة لم تتعهدها الإرادات السليمة فتحولت من نعمة إلي نقمة وكما يقال “فالكثير من الحرية يقتل الحرية” فمتى يدرك الموريتانيون ذلك قبل فوات الأوان؟ هل تتحول مصطلحات البشمركة والجنجويد إلي علامات غائرة على طريق شاق وطويل يجب أن يظل سالكا وأن يرصع بعلامات ومصطلحات أكثر اشراقا ونصاعة…كل شيء ممكن.
بقلم: عبد الله محمدو للتواصل: https://www.facebook.com/dedehmed