نشرت صحيفة “الغارديان” في عدد أمس الأحد تقريرا أعدته مراسلة شؤون الشرق الأوسط بيثان ماكرنان قالت فيه إن “نبوءة القذافي تتحقق حيث تتنازع القوى الأجنبية على النفط الليبي”. وأشارت إلى خطاب الزعيم معمر القذافي الذي ألقاه في آب/أغسطس مع بداية غارات الناتو وهجمات المعارضة المسلحة على العاصمة طرابلس دعا فيه أنصاره للدفاع عن البلد ضد “الغزاة الأجانب” وقال: “هناك مؤامرة للسيطرة على نفط وأرض ليبيا واستعمار ليبيا مرة أخرى. هذا مستحيل، مستحيل وسنقاتل حتى آخر رجل وامرأة للدفاع عن ليبيا من الشرق والغرب والشمال والجنوب”. وبعد شهرين تم جر الديكتاتور النازف الذي كان ذاهلا من أنبوب للمجاري في مدينته بسرت قبل أن يقتل. وبعد تسعة أعوام على اندلاع الحرب الأهلية يبدو إعلان القذافي صحيحا باستثناء أن الولايات المتحدة تراجعت عن دورها الذي لعبته في سقوطه، وحلت محلها مجموعة من القوى الإقليمية التي تحاول الحصول على حصة في الكعكة الليبية. ومع اقتراب المعركة من سرت التي تعتبر البوابة للهلال النفطي الليبي هناك معركة تقترب للسيطرة على نفط البلاد. وشهدت سرت بعد القذافي عددا من المسارات، فمن مدينة أرادها أن تكون معرضا لرؤيته عن إفريقيا إلى الفلل المصطفة التي كانت تعود إلى قادة النظام السابق التي دمرتها الثورة. ثم جاء تنظيم “الدولة” ونشر الذعر فيها حتى أخرج منها عام 2016.
وفي خرق للحظر الدولي تدفقت في الأسابيع الماضية الأسلحة والمقاتلون إلى المدينة والصحراء المحيطة بها. فمن جهة حشدت الحكومة في طرابلس جنودها وعلى الجانب الآخر من جبهة القتال هناك المقاتلون الموالون للجنرال المتمرد خليفة حفتر. وفي وسط المعركة أو على المحك هي ثروة ليبيا واحتياطاتها النفطية التي تعد الأكبر في كل القارة الإفريقية. وفرضت قوات حفتر التي تسيطر على سرت حظرا على تصدير النفط منذ كانون الثاني/يناير مما أدى إلى تراجع الإنتاج النفطي من مليون إلى 100.000 برميل في اليوم. وتريد حكومة طرابلس إخراج قوات حفتر من المدينة، خاصة أنها أجبرت على خفض النفقات من الاحتياط المالي المحدود الذي ورثته من فترة القذافي. وتدير طرابلس حكومة الوفاق الوطني التي شكلتها الأمم المتحدة عام 2015 وتواجه حكومة طبرق التي شكلها النواب الذين انتقلوا إليها بعد انتخابات متنازع عليها. وقامت هذه بتعيين رصيد سابق للـ”سي آي إيه” وهو خليفة حفتر ليقود ما أطلق عليه الجيش الوطني الليبي. ويتهم أنصار حفتر حكومة الوفاق بأنها تدار من الإسلاميين والإرهابيين، فيما يقول أعداء حفتر إنه سيكون مثل القذافي بفارق أنه مدعوم من السلفيين. وأدى النزاع بين الشرق والغرب لدخول أطراف أخرى مثل تركيا وقطر إلى جانب حكومة الوفاق. بالإضافة لإيطاليا التي تعتمد على حكومة الوفاق لوقف موجات المهاجرين عبر البحر المتوسط. ويدعم جانب حفتر، الإمارات العربية المتحدة وروسيا والسعودية ومصر والأردن. وكانت بريطانيا وفرنسا لاعبتين مهمتين في عملية الإطاحة بالقذافي حيث دعم رئيس الوزراء في حينه ديفيد كاميرون والرئيس السابق نيكولاي ساركوزي حملة الناتو، إلا أن بريطانيا تركز على الجهود الدبلوماسية أما فرنسا فتلعب دورا قويا في الأحداث. ودعمت فرنسا التي تريد الحفاظ على مصالحها في منطقة الساحل ومواجهة الجهاديين حفتر. وعقدت المواجهة من الدينامية القبلية في ليبيا وانتشار الطائرات المسيرة وزيادة أعداد المرتزقة الأجانب، مثل الشركة الروسية المرتبطة بالدولة “فاغنر”. وهناك حوالي 10.000 من المرتزقة من سوريا الذين يشاركون في حرب الوكالة مع الطرفين، وتم جذبهم إلى ساحة المعركة البعيدة عبر المال الذي لا يستطيعون الحصول عليه في بلدهم. ويتهم داعمو حكومتي الوفاق والجيش الوطني باتهامات تجنيد مرتزقة من تشاد والصومال والسودان بحجة العمل كحراس أمن في وحدات الدعم والذين يجدون أنفسهم في جبهات القتال ووقودا للمدافع. ويقول بيتر سينغر، المختص بحروب القرن الحادي والعشرين في نيو أمريكان فاونديشن: “بطرق ما يمكنك التفكير بالحرب السورية والأوكرانية والآن ليبيا على أنها موازية للحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينات القرن الماضي” و”ليس فقط خوض القوى المتعددة حروب الوكالة هناك من خلال مزيج من المسؤولين والقوى المستأجرة وبل ولأنها تستخدم النزاعات كنوع من الاختبار لم يكن أن يفعلوه وبأي طريقة، ومثلما حدث في سنوات الثلاثينات من القرن الماضي. وسنرى آثار هذا على مدى السنوات القادمة”. وجلب عام 2020 تصعيدا للحرب ويمكن أن يؤدي النزاع على سرت لمواجهات غير مسبوقة بين القوى الأجنبية. وكان حفتر بنهاية العام الماضي على بعد مسافة قصيرة من السيطرة على العاصمة في حملة أدت لمقتل أكثر من 3.000 شخص وشردت 50.000 من بيوتهم. ولكن تركيا دخلت في كانون الثاني/يناير الحرب إلى جانب حكومة الوفاق. وبعد معاهدة وقعها الطرفان أرسلت أنقرة طائرات ومعدات عسكرية ومستشارين عسكريين ومرتزقة. وحققت تركيا ما تريده في غضون أشهر وعدلت ميزان الحرب لصالح طرابلس، وتم إخراج كل قوات حفتر من غرب ليبيا. وزادت حكومة طرابلس من دفعها باتجاه سرت على أمل أن تجبر قوات حفتر على مغادرتها، إلا أن داعمي الجنرال المهزوم ضاعفوا من جهودهم. ومن أجل مواجهة التأثير التركي أعلنت مصر في الشهر الماضي عن تدخلها العسكري حالة اجتازت قوات الوفاق وتركيا سرت. ومرر مجلس الشعب المصري قرارا سمح للقوات المصرية القيام بعمليات عسكرية في الخارج. ويقوم مرتزقة فاغنر التي تعمل بناء على توجيهات موسكو وأبو ظبي بتعزيز مواقعها في قاعدة الجفرة، جنوب سرت. ونشرت روسيا 14 طائرة ميغ-29 وسوخويس-24 التي جلبتها من قاعدتها العسكرية في سوريا. ويقال إنها سيطرت على حقل الشرارة النفطي في سدر. وتقول كلوديا كازيني، الباحثة في شؤون ليبيا بمجموعة الأزمات الدولية: “مع استمرار الحشد العسكري في سرت فإن الوضع بشكل أساسي مسدود والطريق غير العسكري للخروج من الأزمة هو اتفاق على المشاركة في موارد النفط”، وأضافت: “لسوء الحظ، فلا طرف مستعدا للتخلي عن أرصدة مهمة. فاللاعبون في طرابلس يفضلون الزحف إلى المدينة وسيكون خطيرا على تركيا لأنها ستواجه مباشرة روسيا أو المصريين. إلا أنه لا يمكن الحفاظ على الوضع الراهن، فطالما بقي حفتر يسيطر على النفط وبدون موارد للحكومة فهو الذي يتحكم”. وستبدأ عملية الجرد للمصرف المركزي الليبي هذا الأسبوع، وهي عملية قد تنهي عملية الحصار على النفط الذي مضى عليه ستة أشهر. ويحذر المراقبون أن النزاع المتعدد الأطراف والطبقات يجعل من الصعوبة بمكان على أي طرف تقديم تنازل. وفي غياب دور الأمم المتحدة في التفاهمات التركية- الروسية فما سينتج هو نزاع مجمد أو تقسيم فعلي للبلاد. وربما لن يحدث ما تصوره القذافي عام 2011 ولكنه لن يتعرف على ليبيا اليوم والتي تحولت إلى ساحة نزاع بين القوى الأجنبية، ومصير الشعب الليبي أصبح بيدها.