ينعم علينا الله في بعض الصباحات المضيئة باشياء بسيطة تجعل نهارنا أجمل. ليست السعادة مطلقة ولا دائمة. هي تلك اللحظات العابرة التي نتمتع بها في يومنا بأمور بسيطة. كمثل ان نشرب قهوة قرب البحر او في احد مقاهي الرصيف في عاصمة جميلة ، او أن نقرأ كتابا ممتعا، او ان نلتقي بمن نحب، او أن نسمع موسيقى عذبة، او ان نمارس الرياضة، او ان نستمع الى الآذان ونحن نقرأ الصحافة في خان الخليلي في القاهرة حيث ذكرة نجيب محفوظ عابقة في المكان ، او نسمع جرس كنيسة صباح يوم احد في قرية عتيقة ، أو أن نتناول الغداء مع اصدقاء حقيقيين، او ان نساعد محتاجا او فقيرا.... أو أن نتمتع بشمس دمشق او حلب دون قذيفة .... أو ................ان نصعد بتاكسي فنسمع واحدة من أجمل قصص الحب. هذا ما حصل معي هذا الصباح وان متوجِّه الى المطار .
واليكم القصة.... كنت اسمتع هذا الصباح الى كل مآسينا عبر التلفزات والاذاعات. فعادتي الصباحية أن أبدا بقراءة صحف أميركا فالخليج، ثم المغرب فالشرق الاوسط وصولا الى الصحف الاوروبية وذلك وفق وقت صدورها. ثم أستمع الى الاذاعات العربية والدولية، وبعدها ابتسم قليلا وأنا ارى مجموعات الخبراء الاستراتيجيين والعسكريين والمحللين السياسيين والمفكرين والعباقرة على شاشاتنا والذين غالبا ما يناقضون بكلامهم اليوم ما قالوه بالأمس فيضللون مشاهدهم . الا ما ندر . أهداهم الله وأهدانا.
شعرت بشيء من الغضب والقرف، فاستمعت الى فيروز باغنية " بكرا انت وجايي ". قلت في نفسي لا شك أن أحدا سينتظر عودتي بهذا الفرح. لا أدري من، ولكن ربما أحد ما . وبعدها استمعت الى اغنية " عهدير البوسطة"، فانتعشت، ثم اغنية أجنبية تتحدث عن الحب، ففرحت ...
جمعت آخر كتبي وأجهزتي الالكترونية وهي كثيرة ومتعددة لتواكب العصر، ولملمت آخر حوائجي أحشرها في آخر زاوية في الحقيبة. أكاد أسمع حقيبتي تقول " كفى يا رجل خنقتني" . لكن لا بد من الكتب. فهي الانيسة الوحيدة الصادقة التي تزيدك معرفة دون ان تطلب منك شيئا . ترقد بجانبك، وما ان تلمسها حتى تفتح لك نوافذ على العالم والمعرفة والسعادة. ليت البشر مثلها.
نزلت لأركب التاكسي التي تنتظري تحت المنزل. وجدت وجها أنثويا آسيويا مبتسما يدعوني للصعود. الحمدلله. في مثل هذه الاوقات تكون أوجه السائقين الاوروبيين مكفهرة لسبب لا يعرفه الا الله. فحياتهم هانئة وعندهم كل شيء لكنهم دائمو التذمر.ربما هي تخمة السعادة . المهم، صبَّحت على الوجه الاسيوي الصبوح بالخير وابتسمت. حاولت المسكينة ان تحمل حقيبتي لتضعها في الصندوق، فرجوتها الا تفعل لسببين، اولهما اني لا احب هكذا تعب للسيدات كوني مؤمنا بضرورة رفاهية المرأة وحسن معاملتها ( اعتذر من داعش واخواتها )، وثانيهما لان الحقيبة فعلا ثقيلة .
كان الطقس جميلا، والشمس ترسل دفئا بعد ليلة ماطرة . افتح هاتفي لأقرأ آخر الرسائل. كلها تتعلق بالعمل . اقرر ان اغلق كل هواتفي. لن افتحها الا حين تصل الطائرة الى بيروت . سأتمتع بالقراءة. كانت الطريق سالكة تماما، وظلال الاشجار ترتمي على السيارة وعلينا كأنها تلامسنا برفق العشيقة. موسيقى كلاسيكية تنبعث من الراديو، والأشجار الوارفة على حافتي الطريق مزهرة بكل الالوان ومبشِّرة بقدوم الربيع . يا ألله ما أجمل نعمك .
"منذ متى تعملين سائقة يا سيدتي " سألتها . التفت قليلا الى الوراء . ابتسمت." منذ 6 سنوات "
" لا شك انت تعملين في النهار، لان هذه المهنة خطيرة على سيدة في الليل " ؟ تبتسم مجددا وتجيب : " ابدأ عند الثالثة فجرا، وفي تلك الاوقات يكون الزبائن اما قاصدين المطار كما حضرتك، او ذاهبين الى أعمالهم البعيدة، او أنهم صحافيون ومذيعون ... " ضحكت ، لم اقل لها ماذا اعمل .
وما أن طرحت عليها سؤالي الثالث، حتى استمعت الى واحدة من أجمل القصص .
" انا يا سيدي كنت رياضية في الالعاب البهلوانية الهوائية. وكنت أيضا راقصة باليه، وجئت مع فرقتنا الصينية الى فرنسا قبل 20 عاما لأقدم عرضا بعد عرضي في الباراغوي. كان الناس هنا فرحين جدا بالتعرف على الفن الصيني. وفي نهاية العرض، أجد رجلا أوروبيا حاملا باقة من الورد ويحدثني بالصيني. لم أصدق ا أذني حين سمعته يتحدث لغتنا بتلك الطلاقة. قال لي كلاما جميلا، لكن في اليوم التالي كان علي ان اغادر الى فنزويلا لتقديم عرض آخر. وهذا ما حصل . سافرت مع الفرقة الى كاراكاس، وبعد اسبوع بدأنا العرض. احَبَّ الفنزوليون كثيرا ما قدمناه وصفقوا لنا طويلا. وفي نهاية العرض لم اصدق عيني حين رأيت الرجل الاوروبي نفسه يقدم لي باقة من الورد . لحق بي الى فنزويلا . كنا آنذاك تحت رقابة مشددة من الصين، لم نكن نستطيع التحرك كما نريد ومعاشرة من نشاء . تحادثنا طويلا وبعدها سافرت الى الصين ... لم اكد اصل الى هناك، حتى جاءني اتصال من الاوروبي نفسه يقول لي انا هنا في مطاركم هل استطيع مقابلتك. تصور اني من قرية صينية نائية والمطار الذي يصل اليها بعيد ليومين عن العاصمة. هذا الرجل بدَّل 6 مطارات لكي يحمل لي وردا الى الصين .... هل استطيع بعد اليوم أن اقول له لا ... تزوجنا ، وعدت اعيش معه هنا وأنجبنا ولدين...."
ابتسمتُ. فرحتُ. أحب قصص الحب التي تنجح الى هذا الحد. لكني سالتها كما ستسأل يا عزيزي القاريء طبعا : " ولكن لماذا تعملين سائقة تاكسي " .
تضحك بخجل أهل الصين رغم حياتها الطويلة هنا، تلتفت الي مجددا وتقول : " حين تحب شخصا وتحب مهنتك ويكون الخالق قد منَّ عليك بكل هذا الفرح، فعليك ان تستفيد منه. التاكسي يا سيدي تسمح لي بأن امارس هواياتي الفنية حين اريد وأن اتغدى مع زوجي-حبيبي حين أشاء، وأن التقي بولدي طيلة الوقت ... يجب أن نعرف كيف نستفيد من هكذا نعمة " .
نظرت الى المسافة الفاصلة بين المذياع الذي تنبعث منه الموسيقى الكلاسيكية، وبين الزجاج الأمامي ، فانتبهت الى التمثال الصغير لبوذا الذي زيَّنته بنبتتين خضراوين، ثم نظرت الى عينيها في المرآة الامامية، ولم أر الى فرحا صباحيا،وحكمة صينية، ورغبة بأن اخفف قليلا من هموم الحياة ومن مشاهدة المحللين والاستراتيجيين والمنافقين والسياسيين، وأن احاول الافادة مما وهبنا الله،لأنه من المؤكد أنه وهبنا كل شيء الا ان نتقاتل باسمه .
رحلتي المقبلة ستكون الى الصين . انشاءالله . الآن الى الطائرة . ادعو لنا بالسلامة .