كان رائعا أن يتحدث للصحفيين شيخ مهيب، بهي الطلعة، حسن السمت، يعلوه وقار و مهابة، ليشهدهم على “طلاقه البائن” للسياسة.. لقد كانت “ضربة معلم” تلك التي فاجأ بها الشيخ ولد حرمه المشهد السياسي يوم أمس.. و رغم ما تستحقه هذه الخطوة العظيمة من إكبار، فلم يتعامل الإعلام معها بما تستحقه، لما قد يحرجون بذلك شيوخا، وهن العظم منهم، و جلّل الشيب منهم رؤوسا كالثغامة، و أحنى ظهورهم تعاقب الأبردين، و رغم ذلك فلا يزالون يعضون على السياسة بالنواجذ.. ولن أجانب الصواب إذا قلت إن أصل مآسي البلاد هو أن من يسيطرون اليوم على المشهد السياسي هو من ظلوا يدحرجون صخرتها منذ الاستقلال.. شيوخ سادوا وحكمت دولتهم وهو اليوم عن تحقيق ما عجزوا عنه بالأمس أعجز. في هذا العصر ذي الاندفاعات الحضارية و الثقافية الهائلة، يصعب على العقول المتحجرة، المنغلقة على ذواتها.. التي تعجز عن إدانة “تكفير” مخالف في الرأي، أو استيعاب مواجهة ثقافة القهر و العهر الفكري، أو الاستفادة من وسائط الملتميديا و الشبكات الاجتماعية في التعبئة و التنظيم، والتي تغلق نوافذها في وجه أعاصير القيم و المبادئ الكونية، أن تتقدم قيد غلوة على لاحب العمل السياسي الناجع.. لهذا ظلت الممارسة السياسية في موريتانيا مجرد وسيلة و إطار لتوزيع الامتيازات غير المستحقة. أن عقولا شاخت، ودبّ إليها الخرف و ضعف الذاكرة.. و أجسادا يأكل منها المرض و يقعدها العجز، لحرّيةٌ بأن تستريح و تريح.. و أن تقذف بالكرة من أيديها المرتعشة إلى شباب أصلب عودا و أقوى شكيمة، ليواصلوا مسيرة حياة، هي في حقيقتها “سباق تعاقب”. هي حالة عجز مزدوج: فالشيوخ لا يُسلِمون العمل السياسي للشباب، و الشباب قاصر عن أن ينتزعها من أيديهم التي لاشيء من السياسة يتسرب من فروج أصابعها.. وبين العجزين يتسلل الجنرالات لاختطاف البلاد. أعتقد أنه قد حان الوقت لأن تختفي الجثث المحنطة من المشهد السياسي، و أن ينزعوا من عقولهم فكرة “الوصاية على عقولنا”.. و أن يظل لهم دورهم الذي تتلاقح فيه حُلُوم الشيوخ بأحلام الشباب.. فقد سنّها الشيخ ولد حرمة سنة حسنة، ستعيد للمشهد السياسي عنفوانه و حيوته. فقبعتي للدكتور، الذي لم يجم وهو يتخذ قراره الشجاع ولم يتثاءب.!