حدثني أحد الحذاق أنه كلما سأله " الدرك المنزلي" السؤال اليومي "لمفروض كسؤال الملكين" أين كان؟ و إلي أين يذهب؟ أجابه بأن الأوقات المخصصة لزيارات الرحم في هذا الزمان أضحت مضروبة في ثلاثة.
فعلاوة علي الرحم الاجتماعي و القبيلة الاجتماعية صار لكل امرئ غير "فّضلة" و لا مدفوع بالأبواب "رحم مهني" أو "قبيلة مهنية" و "رحم سياسي" أو "قبيلة سياسية" و هو في "فراقه" للمنزل خارج أوقات العمل إما قادم من أو ذاهب إلي أحد هؤلاء ليوفيه ما يستحقه من الصلة و المجاملة و البّلال...
تذكرت هذا التشخيص الفريد و هذا "التبرير المهزوز" و أنا "أسخن" بعض معلوماتي حول ما يروي علي نطاق واسع من استفحال "النكبة" التي أصابت الوظيفة العمومية العليا ببلادنا خلال العقود الثلاثة الماضية.
ثم قادني ذلك إلي استحضار ما يجب علي "الرحم المهني" من الموظفين السامين حيال إيقاظ "حّمية مهنية" esprit de corp من أجل الدفاع عن الوظيفة العمومية العليا،حّمية تستنهض همم كبار الموظفين من أجل "إعادة تأسيس العقد الإداري" بما يعيد للوظيفة العمومية العليا ألقها و هيبتها و يضع حواجز دون اختراق مجالات اختصاصها من غير المنتسبين لها.
وتتجلي بعض مظاهر "نكبة" الوظيفة العمومية في "النزيف التقاعدي" النوعي والمتواتر للكثير من أولي "الطول العلمي" و "التجربة المزكاة" و " الهجرة الإيرادية و اللاإيرادية" و"التقاعد الاستباقي" للعديد من كبار الموظفين الأكفاء و تغييب المعيارية في التعيينات إضافة إلي "التسلل الجماعي" لفئة من " المهاجرين غير الشرعيين" من القطاع الخاص و " القطاعات غير المصنفة" إلي عدد غير قليل و نوعي من الوظائف العليا في البلد.
و من المعلوم أن "الانتساب الشرعي" "لنادي الوظيفة العمومية العليا" مشروط باجتياز مسابقات و تصفيات قاسية لا يوفق فيها إلا معلوم الكفاءة و الاستقامة فلا غرو إن كانت مستودعا لخيرة المجتمع و صفوته فهي "الخزان الطبيعي للقادة و صناع القرار" الذي ينتسب إليه أغلب قادة الرأي و صنعة القرار ببلادنا.
هذا و يجب التنويه إلي أن من "المهاجرين غير الشرعيين" إلي الوظيفة العمومية مجموعة من الأطر شكل انتسابها إلي الوظيفة العمومية رافدا نوعيا و دما نقيا خالصا ساعد في إنعاش المرفق العمومي و علاجه من "أنيميا" الكفاءات و الموارد البشرية الشابة التي أصابته خلال عقود تجميد الاكتتاب المفروض من طرف صندوق النقد الدولي و البنك الدولي
و الإجماع منعقد علي أن الأمل معقود علي الطاقم المكلف بملف الوظيفة العمومية حاليا في تحريك المياه الراكدة و إحداث إصلاحات ثورية بالقطاع لما هو معروف عنهم من الاستقامة و القوة و الجرأة في الحق و الكفاءة، فلا يفتي في شؤون الوظيفة العمومية و هم حضور.
و في انتظار الإصلاحات المتوقعة من هذا الطاقم المتميز فإن الاقتراحات التالية يمكن أن تساهم في ترشيد "الحمية المهنية" المطلوبة و التي ينبغي أن تكون "حّمية مدنية" لا "حمية جاهلية"، "حمية إيجابية" لا "حمية سلبية" والهدف العاجل و الأولي من هذه الحمية هو الحؤول دون تطور النكبة الحالية للوظيفة العمومية إلي "نكسة":
1- إنشاء نقابة خاصة بالمنتسبين إلي الأسلاك الإدارية العليا: تكون مهمة تلك النقابة تجسيد مفهوم " الحّمية المهنية" دفاعا عن المنتسبين و إنصافا لهم و مواساة لمن قد تصيبهم "نوائب مهنية" بفعل الخطإ أو الوقوع في شراك المكر و المؤامرة و كثير ما هم.
هذا بالإضافة إلي واجب تقديم المشورة و النصيحة و الاستشراف من أجل تحسين أداء المرفق الإداري و فق فهم جديد و متجدد لعلاقة المواطن والموظف العمومي السامي باعتبار الأخير أجيرا و الأول أميرا( المواطن أمير و الموظف أجير)؛
2- المطالبة بإنشاء "علاوة التأمين علي العّرض المهني": و هي علاوة يجب منحها لكبار الإداريين تتناسب مع السمو المعنوي للمهام الموكلة إليهم و قابلية التعرض لأخطاء ذات تأثير مادي و معنوي علي سلامة مسارهم المهني و من شأن هذه العلاوة أن تجعل الإداري السامي في منأي من "إغراءات الانحراف المهني" كالرشوة و الاختلاس بما يحفظ للمرفق العمومي و للدولة هيبتهما و سلطانهما؛
3- استكمال النصوص القانونية و التنظيمية المتعلقة بالوظيفة العمومية العليا : ذلك أن القانون المتعلق بالنظام الأساسي لموظفي الدولة تم اتخاذه سنة 1993 و لما يتم استكمال النصوص المطبقة له بعد قرابة ربع قرن!!! مما صيره قانونا ولد مشلولا إن لم يكن ولد ميتا "موتا وظيفيا".
فمن المستعجل إذن، استكمال تلك النصوص التطبيقية و أوكدها تلك التي ينبغي أن تغلق منافذ التسلل إلي الوظيفة العمومية من خارج طريقة المسابقة التي هي "الطريق الشرعي و الوحيد" الضامن للعدالة و المساواة و انتقاء المرفق العمومي لأحسن الطواقم و المصادر البشرية.
4- تقنين أسبقية المنتسبين إلي الوظيفة العمومية بالمسابقة في التعيين في الوظائف العليا: و يكون ذلك علي سبيل المثال باعتماد معيار ترجيحي في الولوج إلي المناصب العليا في الدولة لصالح الذين انتسبوا إلي الوظيفة العمومية "غلابا و مسابقة" عبر أبواب المسابقات العلنية والمفتوحة مقارنة مع الذين تسللوا إليها "خلسة أو لواذا" عبر منافذ "الغفلة الإدارية" أو "المحسوبية السياسية"؛
5- تحديد سقف 10 % من الوظائف العليا للصلاحيات الممنوحة للسلطات العليا في التعيين في الوظائف السامية من خارج الوظيفة العمومية: حيث يمنح القانون الحالي المتعلق بالنظام الأساسي لوكلاء الدولة "صلاحيات مفتوحة" للسلطات العليا في التعيين في الوظائف السامية من خارج أسلاك الوظيفة العمومية مما فتح الباب علي مصراعيه لاحتلال نسبة كبيرة و نوعية من المناصب العليا من طرف غير الموظفين خلال حكم الأنظمة التي تعاقبت علي البلد.
و اقتراحنا في هذا الصدد ان يتم اتخاذ التعديلات القانونية المناسبة لتحديد سقف صلاحيات السلطات العليا في تعيين غير المنتسبين للوظيفة العمومية في المناصب السامية بحيث لا يتجاوز 10% علي غرار ما هو متواتر عليه بالعديد من دول العالم و تخصص تلك النسبة لضمان استفادة المرفق العمومي السامي من خبرات المتميزين علميا و فنيا و الناجحين عمليا و ميدانيا من خارج أسلاك الوظيفة العمومية.
تلكم إضاءات تحل محل دعوة صادقة تستنهض الإرادة الإصلاحية لأهل القرار السياسي من أجل "حّمية مهنية مدنية" تصلح من شِأن الوظيفة العمومية العليا و تعالجها من بعض ما أصابها خلال العقود الماضية من أوجاع "التقاعد بالجملة" لذوي التجربة المزكاة و"الاستهزاء بالكفاءات"و "النفخ" في السير الذاتية و الشهادات و "الهجرة السرية" للمهاجرين غير الشرعيين من "غير المصنف من القطاعات"... إضاءات أسلطها علي هذا الموضوع الحيوي ابتغاء إثارة الفضول العلمي للنخبة و أهل الاختصاص الذين يقسم الكثيرون علي أنهم في نوم أو "تنويم""كهفي" عميق.