قبل ثلاثين عاما كان هذا المشهـــــد: كعادته، جلس يدخن السيجار باستمتاع واضح، إلى جانبه الشاذلي القليبي الأمين العام لجامعة الدول العربية الذي كان في استقباله في القاعة الشرفية بمطار تونس قرطاج ذات يوم من أيام إجتماعات الجامعة في مقرها المؤقت.
حدث ذلك بين عامي 1983 و1985، لا أذكر بالتحديد الآن. أيامها كان طارق عزيز أحد أبرز نجوم تلك الاجتماعات في وقت كانت فيه الحرب العراقية الايرانية في أوج سعيرها بين كر وفر. كنت الصحافي الوحيد وقتها في القاعة، طبعا الى جانب مدير مكتب وكالة الأنباء العراقية، فقد كانت «شطارتي» وقتها مراسلا لصحيفة «عكاظ» أن أذهب مع كل اجتماع لوزراء الخارجية وأرابط منذ الصباح في المطار مستقبلا قدوم كل الوزراء لأحصل منهم على تصريحات خاصة وأكرر الشيء نفسه في التوديع، مرة عن التوقعات ومرة عن النتائج. «تكتيك المطار» هذا كثيرا ما اقتنصت به تصريحات على غاية من الأهمية في تلك السنوات الحبلى بالأحداث.
اقتربت من الوزير طارق عزيز واقتحمت حديثه مع القليبي محييا قبل أن أرمي بسؤالي التقليدي «ماذا تنتظرون، سيد الوزير، من اجتماعكم هذا؟». ضغطت على المسجل وبدا الوزير في الحديث قبل أن أقاطعه بعد أقل من دقيقة معتذرا لأن المسجل لم يعمل، حاولت إعادة تشغيله مرات ومرات مرتبكا دون فائدة. إعتذرت متلعثما فابتسم الوزير» ولا يهمك، سجل ما سأقوله كتابة». ازدادت ورطتي ومعها ازداد تصببي عرقا فلم تكن لدي لا ورقة ولا قلم!!. «بسيطة عيني»… عقـّب الوزير مبتسما ونادى على حرسه طالبا منه ان يعطيني ورقة وقلما وشرع في الرد على سؤالي لا متأففا ولا معاتبا. غادرت وأنا أكاد أموت خجلا، عزائي الوحيد أني حصلت على التصريح الذي كان في اليوم الموالي على صدر الصفحة الأولى. كان بامكان السيد الوزير أن يقول لي بكل سهولة «يا ابني أنت صحافي في بداية مشوارك ولم تتفقد المسجل ولا تملك حتى ورقة أو قلما.. خليها مرة أخرى». أراد أن يعلمني درسا بكل هدوء والابتسامة لا تفارق محياه رغم بعض الانزعاج الذي بدا من ملامح جليسه الشاذلي القليبي.
طـبُع الرجل في ذاكرتي منذ ذلك اليوم. لم أنس له معروفه أبدا فقد كان بامكانه أن يحبطني بملاحظة لاذعة أو استخفاف مفهوم لكنه لم يفعل. تغلبت فيه شخصية الوالد بالتوازي مع شخصية الدبلوماسي والمثقف فلم تترك مكانا لأي غطرسة محتملة لشخصية الوزير في عراق كان وقتها في عز عنفوانه، يصول ويجول رغم جروح الحرب النازفة. كم كان بودي أن يقرأ الرجل هذه الأسطر حتى يعرف كم كنت ممتنا له طوال هذه السنوات وكيف كنت أذكر له دائما معروفه هذا وأرويه لأصدقائي باستمرار، وهو في السلطة أو كل ما ذكر اسمه بين فترة وأخرى وهو في محنة السجن طوال الإثني عشر عاما الماضية قبل أن يباغته قضاء الله تعالى الذي لا راد لقضائه.
أشياء كثيرة أخرى ما كان لها سوى أن تثير إعجابك بالرجل وأدائه السياسي العام بغض النظر عما يمكن أن يكون عليه رأيك في نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والفريق الذي عمل معه. فقد كان دبلوماسيا محنكا لا يشق له غبار في منصبيه على حد سواء وزيرا للخارجية أو نائبا لرئيس الوزراء، كان متحدثا لبقا وعنيدا في نفس الوقت، ذا حضور بديهة أخاذ، صاحب حجة قوية بجرأة بعيدة أي رعونة أو قلة أدب. كان رجل دولة حقيقيا، مؤمنا حتى النخاع بالعراق القوي المهاب. وللتاريخ والإنصاف لا بد من القول اليوم إن العديد من مواقفه، ومواقف قيادته، سواء تجاه الولايات المتحدة أو إيران أو إسرائيل ما فتأت السنوات تثبت أنها لم تكن مشطة كما بدت في حينه، كما أثبتت هذه السنوات كذلك أن عراق صدام لا يمكن أن يقارن، رغم كل مآخذ الاستبداد والمغامرات غير المحسوبة، بــ «العراق الجديد» اليوم الذي ترتع فيه مافيات الطوائف والفساد وتجار العمائم.
لم يتاجر بمسيحيته ولم يحاول مقايضتها بحريته وهو الذي لم تشفع له حتى مساعي الفاتيكان لإطلاق سراحه، كما أنه ظل محبا ووفيا لرئيسه حتى بعدما أعدم ولم يقل فيه أبدا ما يمكن أن يشكل عربونا للحصول على حريته. لقد كان حبسه والإمعان في إبقائه هناك بمحاكمات هزلية وتهم متهافتة محاولة مفضوحة للإنتقام من أدائه الدولي الرائع في الدفاع عن بلده. كان مزعجا في منصبه وفي سجنه وفي إطلاق سراحه… بل وحتى في اعدامه الذي لم يجسروا عليه . كان طارق عزيز رجلا بكل معنى الكلمة، عاش رجلا ومات رجلا. رحمه الله.
كاتب وإعلامي تونسي - محمد كريشـان