إن البلاد، فى بعض مراحل تطروها، قد تعرضت لكثير من الهزات و الاضطرابات كادت أن تعصف بكيانها .فتداركتها العناية الإلهية وقيض الله لها رجالا مخلصين، رفعوا شعار الإصلاح، يمشون بين الخلائق بالنصيحة، همهم السعي فى منافع المسلمين. فتكفلوا بإطفاء نيران الفتن وبزرع أواصر المودة والرحمة وجمع الشمل. حددوا المسار ورسموا الخطط وساروا بخطى ثابتة، محكمة، متبصرة نحو الأهداف المنشودة متسمين بالمرونة وبكثير من الواقعية. لم يدخروا جهدا فى إنجاز ما وعدوا ( شدوا الرحال إلى الأقطار، أوفدوا البعثات، عقدوا التحالفات، قاموا بالوساطات، فاوضوا، بعثوا الرسائل، استقبلوا الوفود، بذلوا الأموال الطائلة.....) هانت عليهم التضحيات ولم يلتفتوا إليها لبعد نظرهم وعلو مقامهم ونبل هدفهم وسلامة قصدهم.
انقاد لهم أناس كثيرون ثم التحق بهم آخرون – ولو على مضض- بعد أن تبينوا نجاعة المسار. ساسوهم برفق ولين وحكمة وعدل مع الصرامة والقوة- إذا اقتضى المقام مثل هذا السلوك . هذه نبذة مقتضبة عن مدى تحمل هؤلاء الرجال وتضحياتهم.
ومن تتبع نماذج من سير العظماء لابد أن يكون قد وقف على بعض ما عانوا من صعوبات وما تحملوا من مشاق وما خاضوا من حروب من أجل النهوض بأممهم لأن معالي الأمور باهظة الثمن لاتنال إلا بشق الأنفس وعلو الهمة وبالتضحيات الجسام .
إن التطور والازدهار الذى نراه و تنعم به بعض الدول، قاست من أجل الحصول عليه المحن وويلات الحروب المدمرة : ضحت من أجله كما يقال. ( جنبنا الله المحن والمصائب) وكل ما جنوه من ثمار تضحياتهم كان على أيدى فئة قليلة من الرجال يظهرون فى سائر المجتمعات ويتميزون عنها بما لهم من مواهب وما يمتلكون من قدرات يأخذون زمام المبادرات ، يلتف الناس حولهم وينصاعون لأوامرهم : منهم الملوك ومنهم القواد ومنهم العلماء ومنهم المفكرون...هم أصحاب النفوذ و القرار.
قد تكون دوافعهم أنانية كحب الملك والشهرة والغلبة
والجاه والمال وقد تكون حبا لأوطانهم ودفاعا عنها وقد تكون لنصرة الحق وصد الظلم إلى غير ذلك من الأغراض. فالله يتولى السرائر. لكنهم كلهم قاسوا الصعوبات الجسام من أجل تحقيق مآربهم.
هذه حقيقة ينبغي ألا تغيب عن الأذهان : تلك سنة الله فى عباده.
إن الاستعداد للتضحية وبذل الغالي والنفيس من أجل مصلحة الوطن والذود عن حياضه وكرامته من لوازم النهوض بالأمم ، فإن فقد هذان العنصران استولى الوهن على القلوب و تلاشت المقومات و تدنت الأوضاع.
تحضرني فى هذا المقام واقعة تخلي الدولة عن نصيبها من الصحراء الغربية
،الذى لم تحصل عليه إلا بعد جهد جهيد ( مفاوضات طويلة وشاقة، المثول أمام محكمة العدل الدولية لعرض ملفها والدفاع عنه.....) وما عانته بعد ذلك إثر الحرب التى فرضت عليها ظلما وعدوانا وكلفتها تضحيات باهظة ، وكان الإجماع قد انعقد ( سياسيون، علماء، وجهاء، نقابيون، أطياف من جميع فئات الشعب ) على أحقية البلد فى الدفاع عن هذه المكاسب بجميع الوسائل.
فخروج البلد بالطريقة التي حصلت -صفر اليدين ، خجولا، بلا قيد ولا شرط، دون البحث عن صيغة تحفظ له بعض ماء الوجه- يعتبر هزيمة ومذلة لا تقبلها الشهامة ولا الوطنية وحتى المنطق كما أنها تخل بهيبته وبمصداقيته. ومن المفارقات العجيبة أنهم يحتسبونها انتصارا
إن الهدف من إثارة هذا الموقف هو التنبيه إلى أن الإقرار بالهزيمة وإظهار الضعف والبلبلة والإحباط فى مقام يتعين فيه التجلد والتحمل والصبر والقوة والشجاعة، يعد مذلة للأفراد وبالأحرى بالنسبة إلى الدول..
فلا بد للأفراد والدول من التضحية لأن الحياة الكريمة لاتنال إلا بها، فإن فقدت انهزمت الإرادة وهانت القيم وانحط الطموح. فأنواع التضحية كثيرة : فمجاهدة النفس تضحية والصبر على الطاعة وعن المعصية تضحية وبذل المجهود فى تحصيل العلم ووسائل العيش الكريم تضحية وتحمل المشاق من أجل إتقان العمل تضحية...والدفاع عن المبادئ الصحيحة والثبات عليها تضحية والنهوض بالمسؤولية والذود عن الوطن تضحية.... . فكل مجالات الحياة تستدعى التضحية ومن أنبل وأعلى أنواعها ما كان من أجل منافع المسلمين. فزرع و ترسيخ هذه الفضيلة فى الشعب تجعله يقظا وجادا فى كل ما يقوم به من عمل .فإذا فاوض أحد أفراده كانت مصلحة البلاد نصب عينيه و إذا أسندت إليه وظائف استشعر ثقل المسؤولية التي يتحمل وهذا بحد ذاته من دواعي إتقان العمل والتفاني فيه وهو في الوقت نفسه يشكل حاجزا بينه وبين التراخي والتهاون وعدم الانضباط
فالله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل