إن للفساد جذورا عميقة فى هذه البلاد وهو يشكل عقبة كأداء في وجه كل إصلاح وهذا الواقع المر ناتج- على ما يبدو- عن التراخي وعدم الجديه والتغافل إلى حد اللامبالاة في التصدي لهذه الجريمة على عكس ما كان ينبغي أن يكون عليه الوضع من صرامة وفعالية ومرونة في محاربتها قبل أن تتفاقم وتتسع رقعتها ويصبح القضاء عليها صعب المنال. فالفساد وهدر المال العام ممارسة معتادة لا تلفت النظر وأصحابها يسرحون ويمرحون شامخين بأنوفهم يظهرون ما اختلسوا من أموال دون أي خجل لأنهم على يقين من أنهم - إن استثمروا قسطا ضئيلا منها في تلميع صوترهم وإغراء بعض الناس - يمكنهم أن يتبوؤوا مكانة مرموقة في المجتمع وأن يكون لهم وزن قبلي وانتخابي يحسب له حسابه. فلا أحد يضايقهم أويتساءل عن مصدر ثرواتهم أوينظر إلى مأساة فئات حرموهم من تمويلات كانت ستخفف من معاناتهم. وإذا شاءت الأقدار أن أجري معهم تحقيق وجرموا قامت الدنيا ولم تعقد وحصلوا من المحامين على من يجد لهم مخرجا ومن القضاة على من يصغي إليهم ومن المواطنين على من يساندهم ويدافع عنهم. فتنقلب حينها الأدوار ويصبحون في وضع الضحية بعد ما كانوا متهمين ويبرؤون وربما أسندت لهم وظائف جديدة يتلاعبون بها كما فعلوا بسابقاتها وهكذا دواليك. وتنتشر بسببهم وأمثالهم هذه الممارسات الإجرامية. والأخطر من هذا كله أنهم يصبحون لمن يطمحون للوصول إلى ما وصلوا إليه دون عناء -وهم الأكثرون عددا أتباع كل ناعق- مثالا يحتذى ويصفونهم بالشجاعة والإقدام والصرامة وقوة الشخصية...
لم تقتصر طموحات رواد الفساد على تحصيل المال بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك من أجل زيادته وتأمينه واستثماره. فانخرطوا في السياسة واندفعوا في التيار الحاكم لمساندة أصحاب النفوذ والسعي في مرضاتهم ولم يدخرواجهدا في هذا الاتجاه حتى تمكنوا من الارتباط بهم ارتباطا قويا.ثم اتجهوا إلى رجال الدين فأرخوا أطراف العمائم بين الأكتاف وأعفوا اللحى وترددوا على مجالس الدروس والوعظ وساهموا في أعمال خيرية وحضروا المحاضرات الدينية وروجوا لها حتى وطدوا علاقتهم بهم. وكانت لهم اتصلات مع غيرهم تمكنوا من خلالها من ربط علاقات وثيقة مع أصناف متعددة ووازنة من المجتمع. ثم تابعوا السير نحو الهدف المنشود إلى أن وصلوا إلى مستوى يسمح لهم بالتأثير على الرأي والمشاركة في القرار.
وهكذا قوي نفوذهم وذاع صيتهم وطغت عقليتم ونهجهم على ما سواها وساد الفساد والمكر السيء . وينطبق على هذا المشهد ما يعرف عند الاقتصاديين بقانون جريشام: العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة.
La loi de Gresham: la mauvaise monnaie chasse la bonne
وهذا القانون قابل للتطبيق على كل مجال : فالبلد-على سبيل المثال- عندما تسوء أوضاعه ويختل ميزانه لن يسود ويتصدر المشهد إلا الرديء. كذا في الإعلام والسياسة والفن..
إن الخروخ من هذه المعضلة أو التخفيف من وطأتها لا يتأتى دون إصلاحات هيكلية جوهرية وقوانين شاملة وصارمة ورجال أكفاء وأمناء يعتمد عليهم. وعلى كل حال "فأهل مكة أدرى بشعابها".
فالله ولي التوفيق.
محمد ولد أحمد ولد المختار