في لحظة ما من مسار البشرية ترقي الأرواح إلي بارئها ، فَتتلاقى دموع المحبين، لتشكل لدى بعضهم وقود إبداع ينقل بأمانة ذلك الإحساس الناجم عن اثر فاجعة الموت وهو ما يعرف في الشعر العربي بالرثاء ..
ولئن كانت فاجعة وفاة يعقوب ولد باب ولد الشيخ سيديا في 13 نوفمبر2002 من اكبر مامني بع مجتمعنا وغيره من دول الجوار فإنها شكلت صرحا أدبيا شعريا فصيحا وحسانيا ..
صرح لم تخطىء الملكة بلقيس لو حسبته لجة …
ولد يعقوب ولد باب ولد الشيخ سيديا 1908
وحفظ نصف القرآن علي يد جدي محمذفال ولد محمدعبد الله الادهسى الأبييري الذي حدثنا عن نبوغه المبكر ..
ثم اكمل حفظ القرآن على يد خاله محمد محمود بن الحسن الخاجيلى الأبييري إلي أن وصل مشواره العلمي حتى أخذ إجازة نافع في علوم القرآن علي يد القارئ عبد الودود والد حميه السريني الابييري
لعب دورا بارزا إبان الازمة السنغالية الموريتانية 1989
توفي يوم 13 نوفمبر سنة 2002م عن عمر ناهز 94 , فدفن بالبعلاتية , رحمه الله وأسكنه فسيح جناته .
كانت الفاجعة أليمَة على الشعب الموريتاني عامة ، بل علي دول الجوار
غادرنا الولي قطب زمانه ولكنه كان اكبر من الغياب .. لقد مثلت تلك الفاجعة تظاهرة ادبية انتعش فيها الادب الحزين.. إذ تَباري الشعراء في سقي المآقي دموع الاسى
وقد صدق العلامة الشاعر محمد سالم ولد عدود حين اعتبر مصاب فقد الشيخ يعقوب أعظم من الرثاء :
عَظُم المُصابُ عنِ الرِّثاء فأَفزَعا ***
ونفوسُ أهلِ مُصابنا أن تَجْزَعا
إن الرزِيَّةَ لا رزيَّةَ مثلُها ***
يعقوبُ إذ زَمَّ الرِّكابَ فوَدَّعَا
صُنتُ الدموعَ حِذارَ غِبْطةِ شامتٍ
فجَريْنَ رَغم الصون مَربَعَ مَربعَا
تئن القصيدة وترن بدفق العواطف الحزينة ..
عواطف أعيت ان تكبت أو تصان بل جرت بسيل الدموع درارا ..
صُنتُ الدموعَ حِذارَ غِبْطةِ شامتٍ ***
فجَريْنَ رَغم الصون مَربَعَ مَربعَا***
ولم يشفع للشاعر الشيخ كونه مسنا
لو كنت فى عصر الشبيبة لم تطق***
أنٌى وقد أصبحت أشيب أصلعا***
ويتداعي الشاعر من ثنايا الحزن إلي
غِلاب الذات في ترك الرثاء الذي من المستحيل أن يفي بمزايا الشيخ يعقوب ؛ لكنه ما يلبث أن ينتشي بالعزاء في المؤمل من أسرة يعقوب آل الشيخ سيديا
ودعِ الرِّثاءَ فلو خُلِقتَ مُتَمِّمًا ***
أعياكَ ما فى الشيخ كان تَجَمَّعَا
وتعزّ بالأحياء منهم واحتسب ***
وأدع الذى ما إن يـــخــيــب من دعا
أن يٌرحموا أن يُكرموا أن يُنصروا ***
أن يــُحفـظوا أن لايـــزالوا مـــفــــزعا
ولم يكن الشاعر محمد الحافظ ولد احمد ليغيب عن التظاهرة الحزينة التي اعتبرها جبلا هُدٌ
قد هد طود المعالي الشامخ الراسي**
آسِي البرية وابن الجهبذ الآسي **
غوث الخليقة مأمون النقِيبة من **
عمت مزيته كالغيث في الناس **
تضاعف الحزن والاسى عند الشاعر محمد الحافظ فأودع ذلك في ألفاظ أمينة لا تخون مستخدما التضعيف ثلاث مرات في بيت واحد إيحاء بشحنة الألم (هُدٌ ، الشٌامخ ، الٌاسي )
..وفي صيغ صرفية تعزز ذلك (الراسي ،
آسِي ، الآسي ) ويحضر الطود في مطلع القصيدة ليعبر في مداليله المعروفة عن ثبات الحزن واستقراره في قلب الشاعر وعلو شأن الولي يعقوب معززا ذلك باستخدام المعالي في علاقة المضاف بالمضاف إليه( طود المعالي )
وفي صورة تقابلية ضدية فإن ثبات الحزن واستقراره يوازيه ما للولي يعقوب من صفات تجعله كالغيث عمت مزيته …
وهو مِقباس ينير الدجى في هذه الأبيات
أن غاب يعقوب عنا فإن سيرته
تفتأ تنير دجى الدنيا بِمقباس
كم أنقذت عانيا يوم شفاعته
وكم ندى بث من مُلك وأحْباس
وكم هَواطِل إمداد بدعوته
سحت على الناس يوم الحَازب القاسي
صبرا بني الشيخ قد عمت رزيته
كل الأراضين من صنعا إلى فاس صفات ومزايا تهاطلت مدرارا كالغيث فلم يبخل الشاعر بجعله تسح ( سحت على الناس يوم الحَازب القاسي) فَينعم بها الحَازب المَكروب كما تنعم الأرض بسح المطر …
أما الشاعر أحمد ولد عبد القادر فقد نأى بالشيخ أن يكون موته مجرد مثير للبواكِي كما هو حال أي موت !
تعاليت عن باك يثير البواكيا
وعن مشهد بالحزن يدمي المَآقيا
لك الروْح والريحان نزل مبارك
وتلقي من الإنعام ما كنت راجيا
فَالتعالي عن البكاء لا يلغي نثر المزايا ولذلك استغنى الشاعر عن الدموع بتعداد المزايا :
تراعي إليك الوالهون شوقا
وثار حنين الشوق لا متناهيا
ترعرعت نورا يكسف النور فيضه
وغيثا على الترآب يسقي الصوَاديا
وكنت ربيعا للقلوب وبلسما
عطوفا عليها منعشا أو مداويا
أما الشاعر محمدن ولد محمد الحافظ فيرى في هذه الفاجعة مناسبة لتعداد ادوار الولي يعقوب ولد الشيخ سيديا من تعبد وسيادة وولاية وبذل للمال
قطبُ الوَلايةِ والسيادةِ، دأبُهُ ***
الذكرُ والتسبيحُ والتهليلُ***
البَذْلُ دَيْدَنُهُ ومنفعةُ العبا ***
دِ له سبيلٌ سالكٌ وطويلُ***
ويرى الشاعر إبراهيم بن موسى بن الشيخ سيديا البكاء السرمدي يناسب الفاجعة :
يَعْقُوبُ قَدْ خَلَّفْتَ بَعْدَكَ أمَة ***
تَبْكِيكَ صَادِقَةً مَدَى الْأَعْمَارِ***
كُنتَ الْمَلَاذَ لَهُمْ وَكُنتَ مَعَاذَهُمْ***
وَكَفَيْتَهُمْ شَرَّ الزَّمَانِ السَّارِي***
رَحُبَتْ صُدُورُهُمُ وَأَنتَ بِقُرْبِهِمْ***
لَا يَخْتَشُونَ حُدُوثَ إِمْرٍ طَارِي ***
أَلِفُوكَ مَلْجَأَهُمْ وَبَيْتَ رَجَائِهِمْ ***
وَالْمَرْءُ يَأْلَفُ كُلَّ أَمْرٍ جَارِ ***
فَلِذَاكَ إِنْ يَبْكُوا فَحَقَّ بُكَاؤُهُمْ ***
مَا عَابَهُمْ فِي ذَاكَ شَخْصٌ دَارِ***
فمن فقد مأواه حق له أن يبكي (أَلِفُوكَ مَلْجَأَهُمْ وَبَيْتَ رَجَائِهِمْ ***)
وتدب الحيرة الناجمة عن الحزن والأمل فيخلف الولي في قصيدة الشاعر المختار ولد محَمدا الذي يصيغها في شكل سؤال حائر:
سلِ الأضيافَ والزُّوَّارَ عنهُ ***
سلِ النَّادى إذا ما الأمرُ نابا
سلِ الجيرانَ والأرحامَ واسألْ ***
بنى غَبراءَ إن رمتَ الجوابا…
وهو امر لا يختلف كثيرا عن تصور الشاعر لمرابط ولد محمد سالم :
كان يعقوبُ رحيمًا ***
لانَ للناسِ جَنابَا
ولقد كان جوادًا ***
يُعجِزُ البحرَ العُبابَا
وكريمًا مِن كريمٍ ***
سيدًا لُبًّا لُبَابَا...
ظل الولي يعقوب ولد الشيخ سيديا بوابة الولاية والصلاح والكرم والنبل في حياته ولما غيبته فاجعة الموت ازدانت المكتبة العربية برثائه كما ازدانت بمدحه وهو بيننا …..
النجاح بنت محمد محمذ فال