شرف عظيم لنا أن نعيش هذه الأيام السعيدة، أياما فيها عيد الوطن، عيد الاستقلال، عيد يذكرنا بالأب المؤسس، الرئيس المختار ولد داداه. إن الحديث عن الرئيس المختار ولد داداه لا يتسع له الورق ولا تفيه حقه الساعات. ووفاء المختار ولد داداه حقه في دقة التعبير عن صفاته وشمائله وعطائه ليس بالشيء السهل. سأحاول التوقف عند بعض خصاله القيادية والإنسانية. كان المرحوم الرئيس المختار ولد داداه يتمتع بمناقب ميزته عن كل الرؤساء الذين تعاقبوا بعده. لم يمنع ذلك من مهاجمته، لهذا السبب أو ذاك، منذ نيل موريتانيا الاستقلال في 28 نوفمبر 1960 وتعيينه رئيسا للجمهورية الإسلامية الموريتانية. الحملة ضده قديمة متجددة ولن تتوقف. وللرد عليها أذكّر ببعض شيمه رحمه الله.
المختار ولد داداه (أبو الأمة) ومؤسس موريتانيا أحد أبرز الوجوه السياسية الحديثة، ناضل من أجل استقلال موريتانيا، فتقلد منصب رئيس الجمهورية. بعد حصول موريتانيا على استقلالها واجه تحدي إنشاء الدولة الجديدة التي لم تتأسس عاصمتها بعد، ولم تكن تتوفر على بنية تحتية أو مرافق عمومية أو مؤسسات. ولكن دبلوماسية الرجل وعلاقاته الإفريقية والدولية جعلته يتغلب على هذا التحدي. كان لاستقلال موريتانيا أثر بالغ في تطور المشكلة الصحراوية. بدأ المختار ولد داداه يعي ضرورة توحيد الوطن الموريتاني، لكن حرب تحرير الصحراء لم تندلع إلا أواخر 1975، بعد إعلان المختار ولد داداه أن «قضية الصحراء هي قضية شعبنا وأرضنا.» وجد المرحوم المختار ولد داداه نفسه في خضم صراع الصحراء الغربية، في الوقت الذي تتابعت سنوات الجفاف العجاف على موريتانيا وأثرت حرب الصحراء عليها، فأدت هذه العوامل إلى أن يطيح به الجيش في انقلاب عسكري. يقول الرئيس ولد داداه في مذكراته إنه لم يتأثر عندما أعلمه الحسن الثاني بالتخطيط للانقلاب عليه، قبل ستة أشهر من وقوعه، ولا بإشعار الرئيس الزائيري موبوتو له في شهر فبراير 1978، فترك الأمور تسير على طبيعتها، ولم يرغب في التسبب في صدام دموي، حتى تم اعتقاله. كان يتحلى بالإيمان والاتكال على الله سبحانه وتعالى لتخطي أعظم المحن.
يوصف المختار ولد داده بأنه رجل هادئ متشبع بالثقافة الموريتانية الأصيلة، يُحسن الاستماع ويملك قدرة هائلة على النقاش والحوار. كما أنه رجل واقعي، متواضع وبعيد عن الاستبداد. بناء موريتانيا عنده لم يكن مجرد فكرة، كان نهج حياته.
هدفه الأسمى
حفر الرئيس المختار ولد داداه اسمه بحروف من ذهب في المجد والشموخ، واضعاً نصب عينيه الهدف الأسمى المتجسّد في إسعاد شعبه وإعطائه الأمل والتفاؤل. ما جعله يكتسب مكانة متميزة في قلوب الموريتانيين. كان قمة في التواضع، قربه الدائم من الناس وحرصه الشديد على التواصل معهم في مختلف المحافل شيمة من شيم القائد الناجح.
احترامه للحكومة
كان الرئيس المختار ولد داداه يحترم أعضاء حكوماته ويشكرهم على عملهم ويطلب التعاون معهم لتحقيق الأهداف. تميز بالاستماع الدقيق والمتابعة؛ يشاور معاونيه ويشجعهم على طرح أفكارهم بكل ثقة وحرية. كان يرحب بالنقد البناء ويقدّر كل من يملك فكرة مبدعة تحدث فرقا في حياة الناس.
عفته ونزاهته
جعل المختار ولد داداه من هذه الآية الكريمة ركنا لبناء نزاهته ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾ أي حاجة. كان يقدم حاجة الشعب على حاجة نفسه، ويبدأ بالناس قبل نفسه وهو محتاج. وقد عرف عن الرئيس المختار رحمه الله (توفي سنة 2003) البساطة والابتعاد عن مظاهر الترف والبذخ. بعد أن أمضى في السلطة إحدى وعشرين سنة وشهرين، كانت ثروته يوم 10 يوليو 1978، يوم الانقلاب، تتكون من منزل بسيط مسجل عقاريا باسم مريم، زوجته. وقد تم بناء هذا المنزل بقرض منحه البنك الموريتاني للتنمية؛ ومبلغ قدره ثلاث مئة وأربعون ألف أوقية مودعا في حسابه المصرفي في نواكشوط، وهو الحساب الوحيد لديه. يقول في مذكراته: «لقد كنت سعيدا وفخورا، رقم ما للفقر من مصاعب، عندما تنحيت عن السلطة وأنا أقرب إلى الفقر مما كنت عليه يوم تقلدتها.»
جاء في مقال بعنوان من شيم الرئيس الراحل المختار ولد داداه، نشرته الأخبار ميديا 2020، ذكر بعض المواقف التي تبرهن على عفته ونزاهته:
• أثناء محاكمة الرئيس المالي الأسبق موسى تراورى وجه إليه الادعاء العام مجموعة من التهم تتعلق بالفساد والاستحواذ على المال العام ونبذ الحكامة الرشيدة. لم يزد تراورى على القول: "هذه نعوت يتصف بها كل الرؤساء الأفارقة ولم ينج منها إلا واحد هو الرئيس الموريتاني الأسبق المختار ولد داداه."
• حدث سالم ولد ببوط، حاكم بتلميت خلال الفترة 1967 – 1977، أن الرئاسة اتصلت عليه لتخبره بأن الرئيس سيقوم بزيارة شخصية لمدينة بتلميت. قال: «فاستقبلته عند مدخل المدينة، وفي الطريق قال لي الرئيس بأنه جاء ليسلم على والدته خديجة بنت محمود ولد ابراهيم. وعندما وصلناها في كوخها على التل الشرقي للمدينة، إذا بالكوخ به أعطاب بالغة. فقال لي الرئيس: سيدي الحاكم أرجو منك أن تعطيني 12 ألف أوقية دينا لأصلح كوخ الوالدة، وإذا وافقت فستأتيك الأخت أمامة بنت بابي غدا لتسلمها المبلغ. وفي اليوم الموالي زارتني أمامة فأعطيتها المبلغ. بعد أشهر زرت نواكشوط فعلمت أن الشرطي محمد عبد الله ولد ابريهم (المرافق للرئيس) يبحث عني لأمر مهم، فالتقينا فسلم لي ظرفا داخله 12 ألف أوقية وورقة مرفقة معه كتب فيها:
Les bons comptes font les bons amis ».
• حدث التجاني ولد كريم أن العسكر بعد انقلاب 78 طلبوا من الإذاعة إنجاز برنامج إذاعي باسم "أغلاط وجرائم النظام البائد" وكانوا يستضيفون له أشخاصا يدلون بـ"شهادات" تفيد السياق العام لحملتهم ضد المختار ولد داداه ونظامه فاستدعوا أحمد ولد أعمر ولد أعلي، مستغلين كون الرئيس أقاله قبل أشهر من منصب أمين الخزينة العامة، فطلبوا منه شهادة حول فساد الرئيس، فقال لهم لا يمكنني أن أشهد عليه بالفساد، لكن يمكن أن أشهد أنه ذات يوم طلب مني الحضور إلى مكتبه، فوجدت معه وزيرا إيفواريا وأكياسا من العملة الصعبة، فقال لي: «هذه المبالغ أهداها لي الرئيس الإيفواري هوفوت بونيي بصفة شخصية، لكنني فضلت أن تضاف إلى الخزينة العامة مقابل وصل، فوضعت المبلغ الكبير جدا في حسابات الخزينة وأعطيته وصلا، فإذا كانت هذه الشهادة تفيدكم فأنا مستعد للإدلاء بها في البرنامج.» وانصرف.
ونذكّر هنا بقصة زيارة الرئيس الزائيري موبوتو سي سي سيكو لموريتانيا المعروفة:
• في مارس سنة 1973، زار الرئيس الزائيري وقتذاك الجنرال موبوتو سي سي سيكو موريتانيا. أثناء المباحثات، لاحظ الرئيس الزائيري أن مضيفه الرئيس الموريتاني لم يغير بدلته طيلة الأيام الثلاثة، فأدرك موبوتو أن مضيفه لا يملك المال الكافي لشراء البدلات. وعند اختتام زيارته، سلم الرئيس الزائيري موبوتو شيكا بمبلغ 5 ملايين دولار لسكرتير الرئيس، لكيلا يحرج مضيفه، ومع الشيك ورقة فيها عناوين أشهر دور الأزياء في العاصمة الفرنسية التي يحيك موبوتو بدلاته عندها. ولاحقا سلم السكرتير رئيسه الشيك بمبلغ خمسة ملايين دولار. تسلم الرئيس ولد داداه الشيك وسلمه على الفور لوزير المالية لكي يضعه في حساب الدولة ليتم بناء وتجهيز المدرسة العليا لتكوين الأساتذة في موريتانيا. بعد مرور خمس سنوات، أي في العام 1978، توقف الرئيس الزائيري في المغرب، فاتصل به ولد داداه ودعاه لزيارة موريتانيا، وفي الطريق من المطار إلى القصر الرئاسي لاحظ موبوتو وجود لافتات باللغة الفرنسية تزين الشوارع مكتوب عليها "شكراً زائير. شكرا موبوتو. شكراً على الهدية". قبل أن يصل الموكب الرئاسي إلى القصر توقف في مدرسة تكوين الأساتذة. استفسر موبوتو وسأل المختار بتعجب: "ما الهدية التي يشكرني عليها الشعب الموريتاني، فإني قد وصلت إلى نواكشوط وللأسف لا أحمل هدايا معي؟" عندئذ ابتسم الرئيس المختار وأشار إلى المبنى وقال له: "هذه هي هديتك الثمينة، فبمبلغ الخمسة ملايين دولار الذي قدمته لي قبل خمس سنوات بنينا مدرسة عليا للتعليم." فقال له موبوتو: "يا مختار هذا الذي أعطيت لك كان مالا لجيبك Argent de poche". أجابه ولد داداه: "إنني أستلم راتباً شهرياً من خزانة الدولة، وهذه الهدية منك إلى شعب موريتانيا. أما مظهري وهندامي فلا يجوز أن يكون من أرقى بيوت الازياء العالمية، بينما شعبي يعاني من الفقر." عانقه موبوتو وقال له: "لو قدر أن يكون باقي الزعماء الأفارقة مثلك لكانت قارتنا لا تعاني من الأمية والجهل والفقر والتخلف!"
المدرسة العليا للتعليم ENS كونت نخبا موريتانية في شتى المعارف وكانت مدرسة مهنية وجامعة يوم لم تكن لموريتانيا جامعة، وبفضلها طور الموريتانيون تعليمهم أيام كان التعليم قوياً وجادا.
• وفي برنامج "دفاتر وطنية " قال الوزير السابق أحمد ولد سيدي باب إن الرئيس المختار ولد داداه دفع إلى المسؤول عن الخطة العاجلة لمكافحة الفقر سنة 1972 مبلغ مليون دولار في شيك حرر باسمه قدم له كهدية شخصية من الملك فيصل بن عبد العزيز. وأضاف أن هذه ليست الحالة الوحيدة التي يدفع فيها الرئيس المختار ولد داداه إلى الميزانية العامة للدولة هدايا قدمت له شخصيا من نظرائه من الملوك والرؤساء حيث دفع هدايا كثيرة. وأكد ولد سيدي باب أن كل الهدايا التي قدمت للرئيس المختار أثناء حكمه كان يودعها في الخزينة العامة للدولة ولم يستفد منها شخصيا، ولم يقبل أن يستفيد منها.
مواقفه الدولية
كانت لولد داده مواقف معروفة في الدفاع عن القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحظى بالأولوية في محددات السياسة الخارجية الموريتانية، فمنح المسؤولين الفلسطينيين جوازات سفر للقيام بمهامهم في بلدان العالم، ومنع مواطنيه من زيارة إسرائيل وثبَّتَ ذلك المنع في جوازات السفر. وبعد هجوم إسرائيل على مصر وسوريا سنة 1967، قاد حملة دبلوماسية واسعة في أفريقيا لمحاصرة إسرائيل وقطع الدول الأفريقية علاقاتها معها.
لهذه الأسباب كان المختار ولد داداه رحمه الله قائدا عظيما. رحم الله الأب المؤسس المختار ولد داداه، (توفي في 14 كتوبر 2003)، رحمه الله. لقد كان قائدا فذا أمينا شريفا عفيفا ومتواضعا، سخر كل حنكته وذكائه وعلاقاته من أجل وطنه حتى تلازم ذكره مع كلمة " وخيرت ". قَد مَاتَ قَومٌ وَمَا مَاتَت فَضَائِلُهُم * وَعَاشَ قَومٌ وَهُم فِي النَّاسِ أَموَاتُ.
موسى ولد أبنو