ن يتأمل الأحكام التي صدرت أمس عن المحكمة المختصة بمحاربة الفساد، يمكن أن يخرج بملاحظات سريعة.
1. مضى الملف إلى نهايته، وصدرت الأحكام بشأنه، رغم كل التشكيك الذي صاحب الملف عند نشأته برلمانيا، وواكبه إلى أن انتهى في يد القضاء وقال كلمته أمس، وهي على كل حال واجبة السماع، نافذة المفعول بذلّ عزبز أو بذلّ ذليل!.
2. وضعت المحاكمة وما سبقها من تداول في الملف، رجل القضاء الموريتاني، والأجهزة المكلفة بمحاربة الفساد على سكة جديدة لم تطأها الأقدام من قبل في بلدنا، وفي منطقتنا عموما ( في الظروف العادية) وهو ما يعني خبرة متراكمة، وجرأة استثنائية، كما يعني في ذات الوقت ردعا استثنائيا. ويرسل رسالة إلى يحاولون التلاعب بالمال العام، أو المتربحين بطرق غير قانونية أن يد العدالة ستطالكم في يوم من الأيام.
3. في تفاصيل الأحكام هناك رادع جديد، فلأول مرة، في حدود ما أنا مطلع عليه، يحكم على متهم بمصادرة الأموال بموجب الإثراء من غير سبب، وهي سابقة تشكل زلزالا من الحجم المدمر على المتلاعبين بإجراءات التسيير المختلفة، الذين يزعمون أنهم "لا يتركون أثرا". فمن الآن سيعرفون أن "لا وجود لجريمة كاملة"، وأنه لا بد من ترك أثر واضح، ولكنه يجب أن يكون أثرا قانونيا شرعيا لما تملك من ثروات وما تصرف من أموال؛ فسؤال: "من أين لك هذا". صالح دائما لأن يطرح، وأن يرتب على إجابته أثر قضائي فوري، ما لم تكن الإجابة صريحة غير مغمغمة، ولا ملتوية.
4. النظر إلى الأحكام بتمعن يظهر أنها كانت نابعة من حقائق واجهها القضاة، ورأوا عليها الأدلة المادية التي تسند أحكامهم؛ فمَن كان الرأيُ العام، وبعضُ خلاصات تقرير اللجنة البرلمانية، وربما بعض محاضر الشرطة، تكاد تدينهم برَّأهم القضاء، لأنه استند إلى ما يثبت القضايا ماديا، وليس إلى استنتاجات، لا تسندها الوقائع.
ومن هذا القبيل ما تظهره الأحكام من عدم ارتهان القضاة لأي أحكام مسبقة من الرأي العام؛ فتمت تبرئة الرئيس السابق من تهمة استغلال المنصب من أجل تحصيل عوائد مادية، وكذا ممارسة العمل التجاري الذي يمنعه إياه القانون، وهي تهم من الصعب إثباتها قانونا، ومن الصعب إقامة أدلة عليها لكثرة الطرق التي يمكن بها إخفاء الآثار.
ولكن أثر هذه الممارسات؛ أي الإثراء غير المبرر تهمة ثابتة في حق الرجل، واضحة الأدلة، فلذلك حكم عليه بها. وهنا حققت العدالة الهدف منها؛ فصدر الحكم بمصادرة الأموال المتأتية من النشاط غير المشروع، فتحقق هدف استعادة الأموال دون المساس بقواعد القانون، أو اعتساف أدلة لا تصمد للتمحيص.
ويعضد تحقيق الهدف الحكم بالحرمان من الحقوق المدنية لأن من ثارت حولهم تلك الشبه في ممارسة السلطة ليسوا أهلا لتولي أمور العامة، ولا يؤتمنون على مصالح الدولة العليا.
6. تبرئة البعض، وإدانة البعض، وإسقاط بعض التهم عن بعض المتهمين، وتفاوت الأحكام، كل هذا يدل على أن القضاة حين اجتمعوا لهذا الملف اجتمعوا وفي أيديهم أوراق بيضاء لتقييد أحكامهم، وخلاصات ما توصلوا إليه؛ فحصوا الأدلة، واستخلصوا النتائج، وقالوا كلمتهم في منطوق الحكم، وهم في خلوتهم، ثم خرجوا..
7. إذا كان لا بد من ذكر الجهاز التنفيذي، وقد غاب طيلة فترة المحاكمة؛ فإنه يذكر بحصافة التعاطي الإداري مع هذا الملف. وتكريس مبدأ فصل السلطات.
لقد تداولت هذا الملف أيدي عشرات الموظفين؛ ضباط شرطة، وأعوان قضاء، ثم عملت عليه غرف مختلفة في محاكم متعددة، ولم يستطع أي كان أن يذكر اتصالا واحدا يتعلق بأي جزئية من جزئيات هذا الملف. اقتيد الرئيس السابق إلى مخفر الشرطة، واقتيد معه عشرات الموظفين السامين، وفي كل مرحلة كان تمحيص الأدلة، وتعميق التحقيق يخرج مجموعة منهم، إلى أن وصل يوم النطق بالحكم، ولم يعثر محاولو التسييس، ولا من التحق بهم من محاولي ممارسة الوصاية أن يكشفوا عن أي تدخل من السلطة التنفيذية في هذا الملف.
8. تجنب الإعلام العمومي الخوض في الملف، واقتصر التناول على تغطية إذاعة موريتانيا لبعض الأحداث المرتبطة بالملف. ورغم وجود حراك شعبي داعم للمحاكمة، ورغم انخراط بعض منظمات المجتمع المدني في النقاش على هوامشه، إلا أنه لا أحد استطاع إخراج الملف عن صبغته القضائية.
ومهما يمكن القول عن استقلال القضاء في كثير من بلدان العالم الثالث، ومنها بلادنا، فإن قضاءنا استطاع أن يختط لنفسه مساحة سيّجها بكثير من المهنية، وغير قليل من الجرأة، والاتكاء على الضمانات التي يمنحها القانون.
9. فشلت محاولة الوصاية التي حاول البعض أن يفرضها على الملف متكئا على وهم "منح المصداقية"، وكأنه اعتقد أن إشراكه في بداية الملف ضامن له أن يظل وصيا عليه؛ ولا يذكر فصل السلطات إلا في اتجاه واحد؛ وكأن تدخل سياسيين لا صفة لهم في ملف معروض أمام القضاء لا يعد تدخلا في أمور القضاء، وضغطا غير مشروع على القضاة المحميين بنص القانون!. إن عهد الدولة المهزوزة التي تبحث عن شواهد لصدقية عملها لدى معارض أو موال، لم يعد قائما، وقد استعادت أجهزة الدولة مصداقيتها، وثقتها في نفسها، ولم تعد تستجدي التزكية من أحد.!
10. كشفت الأحكام والجو الذي خرجت فيه، والجو الذي اكتنفها عن شيء آخر، ربما لم يلتفت إليه كثيرون؛ ألا وهو أن هذه الدولة التي صكت آذان كل مسؤوليها التهديدات بمختلف أنواعها، وانتظر البعض انهيارها، وأعلنت فيها "انقلابات الفيس بوك"، صدرت فيها هذه الأحكام وكأنها صادرة في أحد النزاعات اليومية بين بائع متجول، وسيدات منازل من زبائنه الاعتياديين، أو كأنه حكم في قضية طلاق بين سيدة وابن عمها، يحضره أبناؤهما!؟
أين ما كنا نخوف به من اهتزاز لأركان الدولة، وحمل للسلاح؟ بل أين هي المظاهرات الشعبية الجارفة؟
إذا عدلت الدولة فحق لقضائها أن يصدر أحكامه بما يرى القضاة، ووقت ما يريدون، وجهاز الدولة منهمك في إنجاز مهماته، غير معني بما يصدر عن القضاء إلا من حيث تنفيذ أحكامه، وتوفير مناخ يضمن للعدالة التحقق ويضمن للمواطن استعادة حقوقه كاملة غير منقوصة، ورأسه مرفوع لأنه موريتاني.