المصاب الجلل... والضياع الأخير / أحمد بزيد

خميس, 09/17/2015 - 13:51

من الناس من دعا - المنعم في فراديس ربه - محمد ولد مولود ولد داداه بالمؤرخ، وتارة المؤرخ الكبير!! ما ذاك وصفه كلا ولا نعته!!!
بل هو - رضي الله عنه - أكبر من ذلك وأجل!! ولن أكون بدعا من أولئك في تعريفه، لو أطلقت عليه كل النعوت الدالة على سمو المعنى، وعلو الكعب، ورسوخ القدم في امتلاك ناصية الكثير من العلوم...
أأقول: هو الفيلسوف؟ أوالمفكر أوالفقيه أوالمحدث أوالأديب أواللغوي أوعالم الاجتماع أوالمؤرخ - كما قالوا - أو.... أم ماذا؟

لا التمس العذر من أي كان، ولا أجد غضاضة لو عرفته بـ "العلامة الموسوعي" بل لا ضير لو قلت إنه: "بحر العلوم المحيط".

ما كنت ممن تبتدرهم ألفاظ أوصاف الإطلاق، ولا هوى بيني وأفعل التفضيل، ولكن حين الكلام حول محمد أجدني في حل من تلك السجية.
أقول: - بيسير الاختصار- جالست العلماء، وسافرت في طلبهم في أنحاء من هذه الدنيا، وخالطتهم وتصفحت أحوالهم، فما رأيت ولا وافقت ولا تبينت مثل: محمد علما ونبوغا ودراية ورواية في مجالات اهتماماته، أحرى اختصاصاته!!

كان - رحمه الله - آية للمتوسمين!! أسفَ عليه لمرابط محمد عالي ولد عدود - رحمه الله - حين غادر محظرته، بل مما روي أن لمرابط أغرورقت عيناه بالدموع، وهو ينظر إلى محمد مغادرا، فقال: "وددت لو بقي معي لأبثه ما في صدري من علم"

حفظ القرآن على يد المقرئ: محمد عبد القادر ولد محمد زيني، وأخذ بعضا من دراساته الفقهية واللغوية عن أبوبكر ولد الرباني، ولمرابط محمد عالي، فضلا عن آحاد من محيطه الأسري القريب.

في مدرسة بوتلميت أيام كان تلميذا تنبه مدرسه لما وُهب من ذكاء ذهن وقابلية تحصيل، فأخبر المدرسُ الحاكم المقيم في بوتلميت، ليخبر الأخير السلطات في "اندر" بالأمر، وحدثني - رحمه الله - أنه عرف بعد ذلك أن الإدارة الفرنسية كانت تنوي ابتعاثه - بعدما وصلتها الرسالة - إلى الكلية الحربية في مراكش، لكن لطفا من الله حال دون ذلك.

كان المستشرق الفرنسي لويس "ماسينيون" Massingnon Louis وجماعة معه من بينهم محمد - أيام كان طالبا في فرنسا - يقرأون في مخطوطة فتعذرت عليهم قراءة كلمة من النص، فلم يستطعها إلا محمد! منها أعجب به "ماسينيون" وأطلق عليه لقب "الخلدوني".

يوم ولد، حمل إلى جده الشيخ سيديا بابه - رضي الله عنه - ومضغ تمرة ووضعها في فيه، من تلك اللبان رضع، ومن ذلك السر غذي، وحيث ذلك المورد نهل....

من المروي أن الشيخ أحمدو بمبا كان إذا رأى الشيخ أحمدو ول أحمذيه - رحمهما الله - يقول: "هذا لا يريد الدنيا والدنيا لا تريده" كذلك كان محمد لا يريد الدنيا وإنه - لعمر الله - لو أرادها لأتته راغمة، لكنه اكتفى منها بالعلم وتحصيله.

كان - رحمه الله - أمة وحده، آية لأولي الألباب، يسر الناظرين، تقيا نقيا، من الذين يمشون على الأرض هونا، سمح العلانية، ميمون النقيبة، طاهر القلب، صفي الخاطرة، صقيل القلب والقالب، قاليا لأولي التكلف، يحب النوابغ، يغضب للحق، ويتجاوز عما سوي ذلك، لا يأكل كثيرا ونومه من ذلك أقل. يجدّ في التحصيل كأن يوم رحليه قد حان.

من مدرسة بوتلميت التي انتمى إليها أكتوبر 1935 إلى مدرسة William Ponty في"سبختان" عام 1941
وبعد ذلك التكوين، بدأ في مزاولة التدريس، حيث حول إلى "كيفه" معلما خلال السنة الدراسية 1945-1946 وبعدها "تجكجة" التي غادرها عام 1948
وفي العام الموالي شد الرحال إلى فرنسا لإكمال دراساته... كان أول بيظاني حصل على شهادة الباكلوريا، سأله مرة سائل وكنت حاضرا، هل أنتم أول موريتاني حصل على شهادة الباكلوريا؟ فرد عليه: "لا، بل أول بيظاني، فأول موريتاني هو: تورى راسين" رحم الله زمان الصدق ورعيله.

في فرنسا تابع تحصيله الأكاديمي، نال شهادة في العلوم السياسية، وأخرى في الآداب برسالة قدمها عن ديوان إسماعيل بن يسار - وهو أول من جمعه - التحق بمعهد اللغات والحضارات الشرقية بباريس، وفيه أتقن اللغة الفارسية والعبرية تحدثا وكتابة، ووجه اهتمامه في مجال اللغات إلى اللغة "السبئية" ليكون من القلائل في هذا العالم ممن يجيدون قراءة خط لغة "المسند".

يقول دوما إن اللغة مفتاح العلوم، ويضرب لذلك مثلا بقوله: من لا يعرف الألمانية يغيب عنه حظ وفير من علوم الفلسفة، ومن لا يعرف الإسبانية لن ينال من روائع أدب الرواية العالمية...

تعرف على الكثيرين من نخبة النادي الباريسي في زمنه الوضيئ، التقى مرات - حسبما حدثني - بجان بول سارتر Jean-Paul Sartre وزامل مالك بن نبي وعبد الله العروي ومحمد أركون وعبد الرحمن اليوسفي.... وغيرهم كثير.
خلال تلك الأحايين زار العديد من دول العالم، حضر صالون عباس محمود العقاد، ولم يكتب لقاء بينه وطه حسين - بعد أن تواعدا - إذ حال موعد رحلة محمد بينهما.

كان حديد النظر، ذكي الذهن، قوي الحافظة، حضرته عشية في مجلس ابن عمه المرحوم الندب المنفق محمد ولد المختار ولد داداه - رحمه الله - وقدم قوم من بينهم رجل من أولاد دمان اسمه الراجل ولد سعيد، وبعد السلام خاطبه محمد قائلا: "آخر لقاء جمعني بك في تجكجة عام 1948 لله تلك الذاكرة! ولله ذلك المحيا!

عمل حاكما للحوض الغربي قبل الاستقلال، وواليا - بعيد ذلك بيسير- للحوض الشرقي، وتحديدا عام ما يعرف ب "اعمارت النعمة" وساعة العملية لم يكن حاضرا، فكان في نيابته الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطائع الذي كان أيامها ضابطا في حامية الجيش بالنعمة.

تولى مسؤولية مكتب التمثيل الموريتاني في فرنسا أيام الاستقلال الذاتي، وخلف بكار ولد أحمدو في سفارة موريتانيا بتونس.

لم ينتظم في الوظائف، بأسباب شغف العلم وحب الإطلاع وهوى البحث. آخر مهامه الرسمية عمله في منظمة الوحدة الإفريقية بأديس بابا - يقول العارفون به ولا ينكرها هو - إنه أراد ذلك المنصب ليتم المامه بلغة " الجعزية" التي نالت من اهتمامه، وأمرٌ – أراده - أهم من ذلك هو قربه من اليمن حيث اكتشف العديد من النقوش الحجرية المكتوبة باللغة العربية الجنوبية، وخط المسند. وقبل أن أزايل اليمن أقول إن محمد - رحمه الله - كان من بين من اكتشفوا في حفريات المخطوطات اليمنية أغلب المتحصل عليه اليوم في مكتبات العالم من نصوص المعتزلة.

اهتم بتاريخ قبائل "البشتو" في افغانستان وأعد بحوثا لهيئات ومراكز دولية حول الموضوع.

بعد الانقلاب على ابن عمه المختار ولد داداه، انتبذ من نواكشوط مكانا شرقيا حيث والدته آدِّيَه وأخوه أحمد - رحمهما الله - و"تِكِيتْ" الكتب.
عاش في معتكفه بـ "عين السلامة" يزداد علما، والباحثون وطلبة العلم من كل حدب إليه ينسلون، مشرع الباب أمام زواره ينالون في حضرته مآربهم من إجابات وأفكار من درر لذة للسامعين، ولا يعدمون كرم الوفادة وحسن القِرى من بقية النبل وخلاصة الفضل سارة بنت الشيخ سيد محمد ولد محمد امبارك.

لا تطلب لمعرفته المقاربة، ولا تتوخى لها المصانعة، بينه وما لا يعنيه بعد المشرقين، ليس من ذوي اللغو ولهو الحديث، يمازح و لا يسيء لمحدثه، يتبسط في الكلام مع عوام الناس، ويشتد في البحث والمدارسة مع من توسمهم من أولي النباهة، طلبُ العلم ونشره سجيته لا يبغي عنها حولا.

يطلع على أخبار العالم من صحيفة "لوموند" الفرنسية Le Monde وكذا نشرات القسم العربي من إذاعة بي - بي - سي.

يكثر الثناء ويبدي الإعجاب بالشيخ المحفوظ ولد بيه والمختار ولد حامد ولوليد ولد دندني وجمال ولد الحسن وخي بابه شياخ وحمد الجاسر وعبد السلام هارون - رحمهم الله- وعبد الودود ولد الشيخ مد الله في عمره.

يكره إطالة مجاملات التحية، يستجيد صنعة البحتري على المتنبي، ويستعذب شعر الحلاج، يقول دائما: "مع إجلالي لإبن عربي لا أجد وجه مقارنة بينه في الشاعرية مع والحلاج" يعجبه ابن خلدون في منحاه الاجتماعي، ويتحفظ على بعض آراءه التاريخية.

يمقت البحث في أنساب القبائل البيظانية، لما يسأل عنها يبتسم ساخرا ويقول "هاذو أمرادْ أهل لخيامْ " وهو المصطلح الذى أطلقه على مجتمع البيظان، يقول إن حدود أرض البيظان تبتدئ من آخر نبتة من "إنِيتِ" في الساقية الحمراء إلى أقصى أخرى في منتهى أرض أزواد، مبينا أن نبتة "إنِيتِ" لا توجد إلا في هذه الرقعة من أرض الله، ويضيف أنه بعد بحث معمق لم يُعثر على مماثل لها سوى نبتة شبيهة بها في تهامة عسير.

يحذر - رحمه الله - من الرجوع إلى مراجع بعض الكتاب الفرنسيين الذين كتبوا عن تاريخ البلاد، معللا رأيه بكونهم يجهلون لغة المجتمع الموريتاني.

يكره أن تلفظ أسماء ألأعلام على غير وجه نطقها الصحيح، ويقول: "إن الأعلام سماعية".

يوقع كتاباته باسم "محمد الشّنافي" تفاديا لطول الإسم وتكرار " ولد" والشّنافي نحلة من اسم محمد شنوف ولد بوبكر سيره - رحمه الله - فقد كانت بينه وإياه علاقة محبة ووداد.

إذا سألته عن كتاب يعجبه يقول: "إنيمشْ" وإن كان عكس ذلك يرد بقوله: "لا يعبأ به" أو "ليس بذاك".

ذات مجلس كان زميل لي يقرأ كتابا فوقف على عزو فيه لكتاب الأديرة للشابشتي، فقال لي: بما أنك ستلتقي محمد ول مولود هذا المساء، فإني سأصحبك إليه حتى أسأله عن هذا الكتاب - الغريب - هل يعرفه؟ 
فلما قدمنا عليه سأله، عن الكتاب فرد عليه: ذلك كتاب ممتع وعليك بطبعة بغداد فإنها أصلح !!

كان رحمه الله يثور غضبا إذا أستعمل محدثه كلمة أوجملة من لغة غير التي يتخاطبان بها.

سمعت عنه قبل أن التقيه، وذات زورة له لنواكشوط في تسعينيات القرن الماضي حرصت ألا تفوتني السانحة، التقيته في بيت السيد أحمد ولد داداه، ومنذ ذلك الضحى وأواصر العلاقة وحبال المودة وجسور التواصل تنمو وتقوى وتمتد بيننا - ولله الحمد - كان لي أبا وشيخا وأخا.... صوح نبت الكلفة بيننا سريعا، كلما زرته ازددت من فوائده، وعرفت قيمة العلم.

ذات مرة وجدته منكبا على قراءة كتاب ألفه أحد "بَطَارِينْ نواكشوط" ولكوني ما عهدته يقرأ مثل تلك الكتب، سألته قائلا: هل الكتاب مهم لدرجة أن يأخذ من اهتمامكم مثل هذا؟ رد علي: نعم، هذا الكتاب بعد خمسين سنة ربما يمثل وثيقة تعتمد في البرهنة على تدني وامتهان مستوى العلم والثقافة في البلاد خلال هذه الفترة!!

شرفني الدكتور عبد الودود ولد الشيخ بتقديم كتابي "ظاهرة الدَّيْمِينْ " - مقاربة المسلكيات في حقل الاجتماعيات العام - والكتاب نفسه قدمه كذلك محمد - رحمه الله - وقد عرضت عليه ترجمة عربية لتقديم عبد الودود فقرأها، وسألني عن مترجمها؟ فقلت: هو أحد الأساتذة الكبار فقال: ترجمة لا بأس بها، ولغتها جيدة، لكن العلوم الاجتماعية لا تترجم بــ "نثر الأخضري" وأخذ النص الفرنسي وأملى علي - في الوقت حاله - ترجمة زادته أكثر من معنى.

رغم فوارق العمر، والمستوى، وأشياء أخرى... يسأل عني دوما ويراسلني، كتب لي العديد من الرسائل، لا أبغي أن لي بها حمر النعم، من بينها التالية وهي جواب لأخرى بعثت بها إليه:

سرني ما أفدتني به من عقدك العزم على السفر، ولا أراه إلا لتحقيق ما أشرت إليه في لقاء سالف، وقد يكون ما تقدم عليه فاتحة خير لاستكمال تكوينك عن طريق إتقان لغة الثقافة الكبرى، قد أصبح من لوازم النفاذ إلى آفاق المعرفة امتلاك ناصية اللسان أوالألسن الغزيرة الإنتاج والواسعة الانتشار في شتى المجالات، فمهما تعددت الترجمات فلن تفي بحاجة الباحث ولا بمتطلبات القارئ العادي، فعساك تحرز النجح المأمول في تخطي حدود المحلية، وتفوز بإبراز ملكاتك إلى النور، وتفيد وتساهم في تخفيف المسغبة التي نعانيها.
نيتي القدوم عليكم - إنشاء الله - بعد الأضحى وسأستصحب رسالتك وأحاول تلبية رغبتك، ولم يتجدد لي من ناحية والد ولد خالنا ما يستحق التنويه، بل أعرته هو وغيره جانب الإهمال، لانكبابي على الكتابة وإعادة صياغتها الكرة بعد الكرة لدرجة لا بأس بها من السأم. صاحبك التوفيق
محمد الشنافي - عين السلامة 22 صفر 1422

لله تلك الأيام، وسلام على العلوم بعد محمد.
تسعون حولا أو تزيد عاشها بهدوء، وبذلك الهدوء رحل عن دنيا لم تنصفه، ولم تعطه ما يستحق، وعن قوم أضاعوه كما فعل بالعرجي أصحابه.

لم يترك محمد بعده غير الكتب والذكر الحميد، والله أرجو أن يعمل الإخوة والأحباء على نشر ما وثق من تقييدات وقصاصات عن تاريخ البلد، وغيره، لئلا يضيع ما عكف عليه حينا من الدهر، وأعطاه من جهده غير القليل.

وردت علي رسائل من بعض الأصدقاء تعزي في الفقيد من بينها رسالة من الأخ الأستاذ محمدو ولد الشيخ عبد الله ولد بيه أوردها أسفل لما لمست فيها - مع اقتضابها - من وصف حصيف شبه جامع لكبريات معان المرحوم:
"يا أحمدو 
أعزيك وأعزي الثقافة المعمقة وأعزي التجرد العلمي وأعزي الجدية في الخواطر، كل ذلك في رحمة الأستاذ المؤرخ محمد ولد مولود ولد داداه
ولك ولي طول العمر في الطاعة والعافية
محمدو"

أعرف أن بعض الأصدقاء يتساءل عن سبب التأخر في كتابة ونشر هذا التأبين !؟

ليس الجواب سلوا مني عن المصاب ووقعه، كلا، ولا تباطؤا في أمر على صدارة الوجوب، وإنما قعدت بي عن المبادرة وعكة ألمت بظهري يوم نعى الناعون محمدا.

اللهم ارحمه وأغفر له وتجاوز عنه.
وإنا لله وإليه راجعون.