تأبين محمد بن مولود بن داداه الشنافي / د. حماه الله ولد السالم

خميس, 09/17/2015 - 14:03

رحل عن هذه الدنيا الفانية إلى دار البقاء الإداري المحنك والمؤرخ القدير محمد بن مولود بن داداه الملقب الشنافي، سليل أسرتي الديانة والرياسة والسياسة.

تلقى معارفه المحضرية في كنف أبويه وأتم دراساته الأولى في مستعمرة السنغال ثم تابع دراساته الجامعية في معهد العلوم السياسية بباريس حيث زامل نخبة من ساسة وإداريي فرنسا البارزين وانكب على تعلم الألسنة القديمة والحديثة فحاز منها النصيب الأوفر وساعدته ذاكرته الواعية وذكاءه الوقاد ومطالعاته الواسعة فحصل معارف قل من نازعه فيها لا سيما في التاريخ والحضارة والألسنية والإناسة والتراث العربي الإسلامي.

تنقل بين عدة مناصب رسمية في الداخل والخارج واليا وسفيرا ومديرا ومستشارا وكان له الإسهام الأوفر في الكثير من القرارات الوطنية الهامة في عهد ابن عمه الرئيس المؤسس المختار بن داداه، لكن الشنافي كان يكره الظهور والتظاهر والرياء ولاسيما في الدين.

برحيل محمد الشنافي فقدت موريتانيا واحد من بناتها الأوائل ومن أكثرهم كفاءة ووطنية ونزاهة إذ لم يترك خيلا عرابا ولا إبلا صعابا ولا صامتا ولا ناطقا يحمل وزره يوم القيامة.

ظل منزله في قريته عين السلامة محط رحال العلماء والباحثين من الموريتانيين والأجانب، وقل باحث موريتاني أو أجنبي كتب عن هذه البلاد لم يزره ويغترف من بحر علمه الزاخر.

ورغم ضيق ذات يده وتعففه عن المال حتى من الأقربين كان مضيافا وكريما وشهما وكثيرا ما ترددت على بيته سنوات 1994 وما بعدها ولم تتغير نبرة الترحاب والإنعام عليّ منه ومن زوجه المصون الفاضلة بنت الأفاضل السيدة سارة حفظها الله.

وكانت لي نعم الأخت كما كان محمد نعم الأخ والأستاذ والصديق.

كان لا يجامل في الحق ولا في الحقيقة وكثيرا ما صدم ذلك بعضا من زائريه من ذوي النظر المعرفي الحسير لكنهم سرعان ما يثوبون إلى رشدهم المدرسي تحت وابل صيب ممطر من معارف الشنافي ومباحثه الأصيلة الراقية.

كنت كثيرا ما ألاطفه مخاطبا من أين انتحلت هذه الصفة [الشنافي] فيقول إنك يا صاحب أهل الحوظ كثير الأسئلة، لقد كنت يوما أود توقيع مقال علمي كتبته وقليلا ما أكتب وكان بالقرب مني زميلي من العرب البيضان في نسبته فلان شنوف فنسبت نفسي لتلك النسبة بالشنافي وتخفيفا من طول أسماء البيضان وما يعتورها من فواصل ولد أو ابن وهكذا، وكان أن طار ذكر تلك النسبة وأنجد والوصف مني وكان محمد يوقع باسمه ذاك في جل أبحاثه وتقاييده ومراسلاته أحيانا ومنها مقاله الرصين الشهير المعنون: على محاور تاكداوست.

لقد كان محمد الشنافي مؤرخا قديرا أفرغ جهده وبذل وسعه في تدوين تاريخ بلاد شنقيطي طيلة خمسين سنة في عمل شمولي نرجو أن ينال النور قريبا وفاء له، وفيه مباحث قيمة في تاريخ العقليات ونحل العيش والفكر وفق تحليل تاريخي عميق ورصين يركز على تحول المؤسسات ونظم الفكر والبنيات الاجتماعية والاقتصادية مع نفس عال من الاجتهاد في لزوم الحياد والوقوف مسافة واحدة من جميع فئات المجتمع وقبائله وجهاته التي كان يعتز بها ويؤمن بمستقبلها ويكره من يفرق بينها. وكان يقول إنه يحترم النمداوي في المرية كما يحترم واحدا من شرفاء مواطن أخرى.

ويعتبرها جميعا "تراب البيضان" ولم أسمعه يوما ينطق كلمة موريتانيا إلا لماما ولمكرهات لغوية أجنبية وكان يردد لازمته الشهيرة "اترابنا" كلما تحدث عن بلاد الناطقين بالحسانية من تخوم وادي نون حيث الصبوية وتكنة إلى تنبكتو وأزواد حيث كنتا والبرابيش وغيرهم وتجكانت والرقيبات في الشمال الشرقي.

لقيته واحدا من مساءات الالفين متألما فظننت به وعكة صحية ألمت به، فقال بعد صمت إنه مما يحز في النفس أن تكون المواطن التي ترد ضمن شعر امحمد شين في حدود سياسية ليست لنا.

كان يتقن عدة لغات حديثة يكره من يتفاصح بها أو يخلطها بسان العامة ويعتبر ذلك مسلك الأوباش، وكان يعرف عمق حضارة الغرب ولا تغره بل يقلل من إسهاماتها في بعض المواضع.

أما إتقانه للغة العربية فقد كان جليا محسوسا وبمعجم موحد ودقيق ومتقن وأسلوب سلس رصين وكان كثيرا ما ينتقد أساليب المحْدثين من الموريتانيين ويعتبرها خليطا متنافرا.

باح لي في أخريات أيامه سنة 2006 أو 2007 بأنه بصدد كتابة مذكراته وأنه أودعها مكنون رأيه وتجاربه لكن القدر اختاره قبل أن يكملها ولله ما أخذ وله ما أبقى.

تلك سطور قليلة نرد بها نزرا من أفضال الراحل علينا.

ولله الأمر من قبل ومن بع.

كتبه عبد ربه الغني به

حماه الله ولد السالم

بوادي بوتيليمت

ضحوة 6/9/2012