صاحب "مدينة الرياح"و"الحب المستحيل". موسى ولد ابنو : قصصي تنبع من التراث والخيال

أحد, 08/28/2016 - 11:08
موسى ولد ابنو

يكتب الموريتاني موسى ولد ابنو رواية مختلفة عن المألوف والسائد. اعماله تمزج التراثي بالخيال العلمي، وتبدأ من مصادر حديثة في السرد. يكتب بالفرنسية والعربية، وينتقل في قصصه بين شرق وغرب. هنا حوار معه:

طوال الفترة التي قضاها موسى ولد ابنو في الغرب، بين باريس ونيويورك، وهي تمتد من 1977 الى 1996 وفي السنتين الأخيرتين منها عمل مستشاراً إعلامياً للأمم المتحدة، طوال هذه الفترة لم يكتب سوى بعض البحوث الفلسفية. ولكن عندما عاد إلى موريتانيا، وصار رئيس قسم الفلسفة في الجامعة، بدأ يفكر في كتابة موقفه من إشكاليات العصر، وأساساً تحديات مجتمع التكنولوجيا وعلاقة التراث العربي الإسلامي بمجتمع التكنولوجيا والغزو الحضاري الغربي، ومكانة أي مجتمع عربي إسلامي في العالم، وبعض الإشكاليات الأخرى التي تهم المشتغلين بالفلسفة. وعندما فكر بالكتابة، لم يجد إلا الرواية وسيلة للتعبير عن هذه المواقف كلها، لأنه كما يرى، "لم يعد هناك اليوم أزمة ميتافيزيقيا. ولم يعد أحد يكتب كتباً فلسفية محضاً، لأنه لا يوجد قراء للفلسفة". ولهذا توصل إلى كتابة الرواية، فكتب نصين بالفرنسية، الأول صدر في باريس عام 1990 وهو في عنوان يمكن ترجمته بـ"الحب المستحيل" بحسب العنوان الذي صدر به في العربية، في دار الآداب، في ما بعد، والثاني في عنوان "البرزخ" صدر في باريس أيضاً عام 1994، لكنه عاد وكتبه بالعربية ليصدر عن دار الآداب قبل "الحب المستحيل"، في عنوان "مدينة الرياح"، وقد نشر ضمن مشروع "كتاب في جريدة" بهذا العنوان أيضاً.

في دمشق، في أحد مقاهيها تحديداً، التقيت به حين عرفني إليه الموريتاني الصعلوك "المتشوم" محمد البخاري، دليل المثقفين والصعاليك في دمشق، وتناولنا الكثير من المحاور بالنقاش، هنا أبرزها:

< لماذا كتبت بالفرنسية أولاً، ثم عمدت إلى "إعادة كتابة بالعربية" بدلاً من ترجمتها؟

- كتبت بالفرنسية لأنني في تكويني درست باللغة الفرنسية، وكانت الكتابة بالفرنسية أسهل، خصوصاً في الرواية الثانية، "مدينة الرياح". وثانياً فرواية "الحب المستحيل" كتبتها في نقد مجتمع التقنية كما يتجلى الآن في أميركا وأوروبا. وربما لو قرأت الرواية من دون أن ترى اسم الكاتب، لا يمكن أن تتصور أن الكاتب موريتاني، فالروح كانت عولمية، ولكن من موقف نقدي. وأنا أسميها "أنثروبولوجيا مضادة". فهناك باحثون أنثروبولوجيون غربيون يكتبون عن مجتمعات "عالمثالثية" من موقعهم الحضاري "المتفوق"، وروايتي هذه أنثروبولوجيا معاكسة، لأنني كتبتها من وجهة نظر المجتمع العربي. وعندما تقرأ "الحب المستحيل"، يمكن أن تحس بهذا الشعور، فأنا أنظر إلى هذا المجتمع بعاداته وتقاليده من وجهة نظر مجتمع آخر.

أما سبب "إعادة كتابتهما"، بدلاً من ترجمتهما، فبعد أن كتبت هاتين الروايتين، لحظت أن كثيرين اعتبروهما، وبخاصة "البرزخ"، في باب الرواية التراثية، أكثر منها عصرية، ولما حاولت الكتابة كان هناك الكثير من المصطلحات الموسيقية والقرآنية لم أتمكن من تمريرها خلال النص الفرنسي، لذلك قررت إعادة الكتابة إلى أصلها، وإعادة النص إلى اللغة العربية التي هي الأصل.

الرواية وخطيئة البشر

< لو تحدثنا بشيء من التفصيل عن رواية "الحب المستحيل"، التي تمزج الخيال العلمي بالواقع الاجتماعي والقراءة التاريخية و..الفلسفية. ماذا تقول لنا رسالتها؟

- "الحب المستحيل" رواية من روايات الخيال العلمي، تبدأ بنهاية فترة بعيدة في المستقبل، ليست محددة تاريخياً، لكن يمكن أن أقول إنها بعد القرن الحادي والعشرين. والشخصيات الأساسية فيها هي "آدم"، وهو يجسد الإنسان الكلي/ الأب، وشخصية "ماني كي"، وقد أخذت الاسم من اليونانية، وهو يعني "ما سيصير"، ويعني "المستقبل"، فهي تومئ إلى مستقبل الرجل، لأن البطل يتحول في نهاية الرواية إلى امرأة من أجل أن يعيش حبه. وفي هذا التحول نظرة إلى الاتحاد، وهي أيضاً نظرة إلى التصالح الاجتماعي، لأن المجتمع الذي تدور فيه أحداث الرواية ينتج بعض الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها المجتمعات القديمة، وهذا المجتمع أين؟ إنه حيث مجتمع الرجال منفصل عن مجتمع النساء.

مقدمة الرواية تشرح الظروف التي أدت إلى هذا الفصل بين المجتمعين والجنسين، وهذه الظروف تتلخص في أنه مع التحكم بالإنجاب البشري من طريق "الإنجاب الأنبوبي"، لوحظ أن كثيراً من الأسر تنجب الذكور بدلاً من الإناث، حتى أصبح الجنس الأنثوي مهدداً. وهذا يعيدنا إلى العادة العربية القديمة المتمثلة في وأد البنات وتفضيل الذكور على الإناث. ونتيجة لذلك، حدث في هذا المجتمع قلب لتوازن الجنسين، وبدأت الصراعات. وفي النهاية تم التصالح على الإنجاب الأنبوبي، على أن يسند إنجاب البنات للنساء، وإنجاب البنين للرجال. هذا هو المجتمع الذي تدور فيه رواية "الحب المستحيل". وبطبيعة الحال، ففي هذين المجتمعين يحظر تماماً الحب القديم كما كان يحدث بين النساء والرجال، لأنه أصبح خطراً على التوازن الاجتماعي الجديد. وفي محاولة لإعادة النظام القديم، فإن بطل الرواية آدم يستحدث مؤسسة لخلق توازن بين المجتمعين، وهي مؤسسة "الخدمة المختلطة"، التي تجمع بين الرجال والنساء في فترة بلوغ المرأة والرجل. وخلال هذه الخدمة التي تقوم على نظام محدد، تحظر العلاقة العاطفية بالجنس الآخر، والتواصل في هذه الخدمة يجسد حظر العواطف والتعلق بالجنس الآخر، ولكن آدم هذا يقع في حب ماني كي، وتقع في حبه ويتم معاقبتهما وسجنهما من أجل إعادة تأهيلهما الجنسي حتى يعود كل منهما إلى مجتمعه، ولم يبق أمام آدم غير حل واحد وهو أن يتحول إلى إمرأة حتى يتمكن من العيش في مجتمع النساء مع حبيبته. لكن الرواية نقد لتوظيف العلم في المجتمعات البشرية المعاصرة، عبر علاقته السلبية بتلويث الطبيعة والبيئة، وتوظيف العلم في علاقته بالسيطرة على الجسد البشري وتوجيهه إلى أغراض قد تكون مشبوهة، توظيف العلم في نفي العلاقات البشرية القديمة التي كانت قائمة في المجتمعات.

< يبدو أنك تعتبر الإنسان خاطئاً منذ البدء ؟ بأية فلسفة تبرر ذلك؟

- هو خاطئ مرتين، في البداية وفي النهاية أيضاً، وقد تكون هذه النظرة تشاؤمية، لكن ما أدى اليها هو ما أدعوه "التلوث الحضاري" الذي أدى إلى تلوث العلاقات الإنسانية وتشويهها، وإلى تحكم بالإنسان جسمياً عن طريق بعض العقاقير وكذلك تحكم بالإنسان عقلياً، فتقنيات التوجيه والترويج اليوم تتيح توجيه خيار الانسان وهناك أيضاً وسائل الدعاية الأخرى، فما وصل إليه التحكم بالعلم أدى إلى نفي حرية الإنسان وإيذاء وإضرار بمكانة الطبيعة.

< في رواياتك رؤية فلسفية تستند الى قراءة التاريخ، هل تعتقد أن مصير الإنسان يسير باتجاه نهايته وموت "الإنسانية" مع الزمن؟

- دائماً ثمة هذه النظرة التي قد تكون تشاؤمية لكن هناك أيضاً التفاؤل. يوجد الحب المستحيل وفي مقابله هناك جماعة تدعى أصدقاء الحب، وليس الحب الجسدي، بل عند أفلاطون الحب هو الحقيقة: وجمعية أصدقاء الحب تحاول أن تخلق مشروعاً جديداً للمجتمع. وأنا لست متشائماً تماماً، فحتى في المجتمعات التقنية اليوم هناك أصوات كثيرة بدأت تتدارك أخطاء المجتمع، في ما يسمى بالدفاع عن البيئة والرجوع إلى كل ما هو طبيعي.

< لكن هذه لا تشكل قوى السيطرة؟

- أظن أن هذه بداية، ويمكن أن يكون هذا المستقبل، لو تدارك الإنسان هذا، ويمكن أن تقوى هذه الاتجاهات، ويمكن أن تظهر اتجاهات تصحح من مسار البشرية، وهذه نظرة تقليدية.

وعندما تلقي نظرة على التاريخ تجد أن المجتمعات عندما تقع في كارثة تكون أمام احتمالين، إما أن تندب نخبة من المجتمع تدعو الى الإصلاح وتحقق الاصلاح، ويتدارك المجتمع المشكلة ويأخذ مساراً جديداً، أو أن تموت الحضارة، ونحن امام خيارين: إما أن نستمع إلى الاتجاه الحالي أو أن نصحح أخطاءنا ونسير في اتجاه جديد، قد ينقذ البشرية من الأخطاء التي ارتكبت بحقها.

< ما تأثير الفلسفة في روايتك، وإلى أي حد تستفيد الرواية من قراءاتك الفلسفية؟

- أولاً، تتجسد هذه الافادة في شخوص الرواية، خصوصاً عبر شخصية أبو الهامة الذي يجسد سقراط كما قرأناه في كتاب "الثناء على سقراط" لأفلاطون، فهو رجل قصير القامة، عظيم الهامة، شديد الدمامة..

فأبو الهامة يرمز دائماً الى الخير، ويدعو إلى اعتزال البشر والذهاب إلى الصحراء وانتظار أمر الله .. وهذا استحضار لآية من سورة الكهف: "وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأْووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً".

بين الخيال العلمي والتراث

< اعتمدت الخيال العلمي في روايتيك، هل يساعد ذلك على فهم العالم والتاريخ والانسان؟

- الخيال العلمي عندي هو أداة لاستقراء بوادر المستقبل في مجتمع اليوم، وتصور ما ستؤول اليه، فأنا أنطلق من الواقع إلى الخيال العلمي.

< لماذا تعمدت تغريب الواقع، وتحويل الشخوص إلى سحرية خرافية أو مقبلة من فضاء آخر، خصوصاً الفصل الذي يتحدث عن مداخن النفايات السامة، لماذا هذا التعامل السحري مع الواقع؟!

- قد يكون هناك جانب سحري. لكن، هناك أيضاً جانب موضوعي، فعندما نتذكر وصف مخازن النفايات السامة، التي هي في الفصل الأخير، ترى أنني قد وصفتها كلها انطلاقاً من معايير الأمم المتحدة لتخزين النفايات السامة.

< هذه الشخصية التي تلبس سترة الاختفاء وتختفي، أين يمكن ان نجد مصدرها، هل في ألف ليلة وليلة، أم هي تابعة للخيال العلمي أكثر؟!

- هي تنتمي الى الخيال العلمي اكثر، فالبعض قال عنها انها استقراء للتراث، لكنه عالم مستقبلي وخيالي علمي... وأنا دائماً انطلق من معطيات علمية، فالنظرية تقول ان الأشعة تحت الحمراء، عندما تكون بسرعة معينة، لا يمكن البشر ان يراها. هذا قانون علمي معروف منذ الخمسينات.

< هل يمكن أن نتحدث عن العلاقة بين الرواية والمدينة، فموريتانيا بلد صحراوي، كيف يمكن أن تنجح هذه الرواية، فهي رواية معقدة تحتاج إلى حياة مدنية؟

- لا بد هنا من مراجعة بعض المفاهيم النقدية. في مجتمع اليوم، لم نعد بدواً ومتحضرين، هناك تواصل بين البادية الخليجية والموريتانية وحتى القطب الشمالي، هي قرية كونية، وإن قال بعض النقاد إن هذه المجتمعات لا يمكن أن تنتج رواية، فالإنتاج الذي بين يديك الآن هو نتاج قرية كونية فيه هموم بيئية وسياسية، واقتصادية تعني الجميع. في مدينة الرياح تجد أن الحضارة المحلية الموريتانية هي أساس القص والسرد الروائي، وهي مكان الرواية.

< كنت سألتك عن الثورة التكنولوجية وما يشبه الإدانة لها في الرواية، فإلى أي حد تتحمل الثورة التكنولوجية مسؤولية الانهيار الأخلاقي والإنساني؟

- إذا نظرنا إلى تدمير المجتمعات الأخرى وذوبان كيان العالم الجديد، نرى التقنية مسؤولة عن غياب العلاقات الإنسانية في المجتمعات المتقدمة، أعني أن ألفرد نوبل عندما اخترع الديناميت كان يفكر في استخدامه لخدمة البشرية. وعندما اخترعت الطاقة النووية كان من المفروض أن تكون في خدمة البشر. لكن كانت هناك هيروشيما وكوارث أخرى.