نان جينغ في عيون نواكشوط / المصطفى ولد البو

ثلاثاء, 03/28/2017 - 13:47

كانت مدينة نان جينغ الجميلة هي عاصمة الصين قبل أن تتحول إلى بكين لكنها حافظت على بعض من ذلك التاريخ من خلال اسمها الذي يعني " العاصمة الجنوبية " ، هي مدينة تاريخية بامتياز لكنها لا تعيش على التاريخ وحده فإلى جانب احتضانها لأهم القطع و المباني الأثرية هي أيضا مدينة صناعية تتميز بالتصاق اسمها بأهم الشركات سواء المختصة منها في البناء أو التكنولوجيا أو الطباعة.
بعيدا عنها في الجزء الآخر من الكرة الأرضية توجد مدينة اسمها انواكشوط تخطى عمرها الخمسين عاما ترمق نان جينغ بنظرة ممزوجة ببعض القهر و قلة الحيلة، و تتساءل ما لذي جعل هذه المدينة التي أباد اليابانيون أثناء غزوهم لها ربع سكانها تقف من جديد و كيف استغرقها أقل من ثلاثة عقود لتصبح على ما هي عليه اليوم.
تتمنى انواكشوط أن تحظى بشوارع كبيرة و طرق معبدة و منظمة، كما تتمنى أن يمر سكانها عبرها رجالا و ركبانا بسلاسة و مسؤولية، انواكشوط تتطلع إلى أن يتوقف أبناؤها عن عقوقها خاصة من فئة رجال الأعمال الذين يكنزون الذهب و الفضة دون التفكير في استثمار أي فلس فيها و كيف يفعلون و هاجس الربح و الخسارة يسيطر على العقول و القلوب.
استثمر رجال أعمال مدينة نان جينغ كل أموالهم في مدينتهم و الأسباب بسيطة و بديهية يقول أحدهم و هي أن نجعل مدينتنا أجمل و أفضل و أن نساعد في خلق وظائف لشبابها و لجذب مستثمرين أجانب لتعزيز النقاط السالفة الذكر فالدافع وطني قبل أن يكون ربحيا أو نفعيا.
أشهر أبناء المدينة و الإقليم الذي يضمها رجل أعمال مشهور عالميا يدعى " جاك ما" لكنه معروف أكثر من خلال شركته المسماة علي بابا و المتخصصة في البيع عبر الانترنت و التي تخطى مشتركوها عتبة التسعمائة مليون نسمة، يقول جاك إنه زار الولايات المتحدة كمترجم في أول الأمر لكن الانترنت هناك لفتت انتباهه و عندما سبغ أغوارها عاد إلى بلاده و مدينته وأطلق مشروعه فاتحا مغارة علي بابا لنفسه و لأبناء جلدته.
انواكشوط معجبة جدا بالساحات العمومية الخضراء و المجهزة بكل وسائل الراحة و الرفاهية في نان جينغ و المقسمة إلى جزأين فبعضها مخصص لكبار السن كاعتراف لهم بالجميل على ما قدموه للبلد طيلة فترة عملهم و الثانية للأطفال لمساعدتهم على النمو في جو صحي و خال من الضغوط.
انواكشوط كأي مدينة في العالم تحب أن ترى أبناءها يخرجون تطوعا لنفض الغبار عن وجهها الشاحب و لتنظيف شوارعها دون ربط هذا العمل بالتصوير و النشر على الفيسبوك، إلى جانب وجود صالات للسينما و لا حرج في الرقابة على الأفلام الوافدة فكما صرح مسئول محلي في نان جينغ قائلا إنهم يقصون أي مشهد أو عبارة لا تتماشى و قيم مجتمعهم المحافظ.
انواكشوط لا تطلب من أي متورط في قضايا فساد أن ينتحر كما حدث في نان جينغ بل تطلب أن يسجن بدل ترقيته و وضعه على رأس وزارة كما تطالب بالتوقف عن تجميل اللصوص و إلغاء وصف " مختلس " و استخدام " وصف سارق فهو الأدق و الأصح.
يوجد في إقليم غوان تسو و عاصمته نان جينغ أشهر و أكبر مصنع للآليات الثقيلة و الذي يحتل المرتبة الأولى في الصين و الخامسة عالميا و تحدث مديره عن سعي المصنع للقفز إلى المرتبة الثانية عالميا في العشرية القادمة مضيفا أن إقليمه سيكون القِبلة الأولى للراغبين في الشراء و التدريب و التطوير، كانت انواكشوط حاضرة لحظة إدلاء المدير بهذا التصريح الذي استفزها حتى سألت عن سبب عدم اهتمام الشركة بها و بأبنائها و قد فتحت المصانع في معظم الدول الإفريقية و دربت مهندسيها و صدّرت لها فخر صناعاتها فكان جوابه أن وضع انواكشوط و دولا إفريقية قليلة في سلة واحدة قائلا إنهم لا يلتزمون بالدفع وفق الآجال المحددة كما أن أنظمتهم المصرفية ليست بالتطور الذي يجعلهم يتبادلون الأموال معهم بسهولة و سلاسة.
تستغرب انواكشوط من مطالبة مدن الداخل بفك العزلة عنهم لأنها تعتبر نفسها المدينة الوحيدة المعزولة و تطالب بدورها بفك العزلة عنها بربطها بالداخل عبر شبكة قطارات أو عبر الخطوط الجوية فقد سمعت نبإ نان جينغ و مطارها الأقرب للمدينة الصغيرة فكل شيء متوفر فيه من أسواق و مقاهي و مستوصف كما وصلتها أخبار محطة القطارات التي لا تقل فخامة عن المطار و لا تقل قطاراتها أناقة و نظافة عن الطائرات، كما تحلم انواكشوط باحتضان تلك المباني الشاهقة و المنتجعات السياحية الساحرة و الفنادق ذات النجوم العديدة بالإضافة إلى امتلاك تلك الجسور الصلبة و الأنيقة.
و تراقب انواكشوط بصمت زعامة شباب نان جينغ بل قل مراهقيها لأهم المؤتمرات و الفعاليات السياسية و الثقافية فقد وضعت فيهم الحكومة المحلية كامل ثقتها و جعلتهم يشرفون و ينظمون دون التدخل في عملهم الخالي من أي هفوات فهو جزء من مشروع لتكوين قادة المستقبل و تتحسر انواكشوط في الوقت نفسه من تغييب شبابها عن المشهد السياسي و الثقافي و الإداري بحجة غبية تسمى عدم الخبرة و كيف سيكتسبون الخبرة و قد كُتب عليهم المكوث في غرفة الانتظار و كُتب على بعضهم المكوث في المكاتب حتى مع الإصابة بأمراض الشيخوخة.
تتطلع انواكشوط إلى أن تكون قوية كفاية لتفرض شروطها على الراغبين في العمل فيها من نخبة الشركات العالمية، فالفيسبوك و غوغل محظوران في نان جينغ كما في الصين كلها و السبب أنهما رفضا شروط الصين القوية للعمل فيها، فالصين يقول ممثل الحزب الشيوعي في نان جينغ تضع شروطها من منطلق قوة أولا و ثقة بحاجة الآخرين لها و ليس العكس ثانيا.
يصل نان جينغ و إقليم تيانغ سو بشكل عام أكثر من 5 ملايين سنويا بحثا عن العلاج في مستشفياتها الشهيرة خاصة المتخصصة منها في الطب التقليدي و الذي توليه الحكومتان المركزية و المحلية اهتماما كبيرا لما يدره على البلد من مكاسب و لمساهمته الفعالة في الدورة الاقتصادية و مع هذا تتطلع انواكشوط و كبداية إلى أن تكون قادرة فقط على علاج أبنائها قبل الدخول في مرحلة علاج القادمين من الأمصار الأخرى.
تعاني انواكشوط من توقف في النمو فحسب أعمار المدن قد تُعتبر في سن المراهقة لكنها من حيث المظهر تبدو عجوزا، تكتفي بمراقبة العالم ينمو و يتقدم بينما تراوح مكانها لكنها تصر على متابعة تلك الأحلام الجميلة و الطموحات الكبيرة و المطالب و المساعي الشجاعة مع التأكيد على قدرتها على القفز ذات يوم فمن يدرى قد يأتي ذلك اليوم الذي يتحدث فيه الكل عن تلك القفزة و كيف استحالت تلك الأطلال ناطحات سحاب و كيف امتصت شبكة الصرف الصحي الأمطار و كيف اختفت الطوابير بفعل كثرة المستشفيات و مراكز الإحصاء و كيف انتظم الطلاب في المدارس و المعلمون في الفصول بفعل التشجيع و التكريم و كيف و كيف، من يدري ؟!