الخداع باسم الحرية / د. صالح الفهدي

اثنين, 03/09/2015 - 08:24
د. صالح الفهدي

ما أصعب الالتباس على من لا يفرق بين ضدين: الحرية والابتذال، والحرية والإباحية، وهذه الأخيرة والأدب، فالحرية في معناها الطاهر سمو، والإبتذال انحطاط، الحرية رفعة والإباحية وضاعة، وبين هذه والأدب ما بين النبع الزلال والمستنقع الآسن ..!

إن من المصائب أن يعلو صوت مناد واهم بالحرية حين يعلو صوت المجتمع الرافض لما يخدش حياءه، ويهتك عفته من كتابات رافعا عقيرته: لا تصادروا حرية الرأي، لا تخدعوا المجتمع، وهو ذاته الذي هاجم أعمالا قصدت صلاح المجتمع ورقيه..! أليس هذا انفصاما في شخصية المنادي الذي يشحذ همته للدفاع عن الرذائل بحجة حماية حرية التعبير، ثم يهاجم الفضائل لأنها في نظره خطابيات تجاوزها الزمان..؟!

ثم أيّ تباين هذا الذي يمارسه هؤلاء الذين يحلون لأنفسهم الرأي، ويحرمونه على غيرهم أوليسوا بهذا يبرهنون على أنهم لا يحترمون مبادئهم إن كانوا صادقين..! لقد نصبوا أنفسهم أوصياء على المجتمع وهي التهمة التي يلصقونها على غيرهم..! أوليس من حق أي أحد كان أن يكون له رأي ما في كتابة مضللة، أو مشهد وضيع، أو صورة دنيئة..؟! أم أن ذلك يوصف بأنه مشكل في طرق التفكير لأنه دافع عن الفضيلة..! أي تكالب على المجتمع الذي تتهاوى عليه السهام المسمومة من كل ناحية..!

إن إبداعا أدبيا بلا ضابط زعم مدحوض، ووهم مرفوض لأن الأخلاق الإنسانية هي منطلق الإبداع الذي إن تملك السطوة المطلقة على الأخلاق، انتفت غايته الجوهرية وهي الرقي بالإنسان: ذوقا، وحسا، وفكرا، وعاطفة.

ثم إن الإدعاء بأن لا سقف يحد الإبداع من الناحية الأخلاقية هو ادعاء مخادع ويكمن خداعه في صحته الظاهرة، ونواياه الباطنة..! الإبداع هو الإتيان بغير المألوف وهذا لا اعتراض عليه ولكن أن لا يضبط الإبداع في ذات المبدع ضابط يراعي فيه الفطرة الإنسانية، والأخلاقيات الكريمة فإنه يشكل انتهاكا، وتجاوزا، وتعديا وعلى المجتمع ألا يكون إمعة لا مبدأ له بل عليه أن يعلي صوته رافضا، ومنافحا عن مبادئه العليا.

الأمر الآخر أن الوجدان والضمير الجمعي هو الذي يشكل المرجعية الأخلاقية التي يقاس عليها المرتضى من الإنتاج البشري في جوانب الأدب والفن والفكر والعلم، وعلى ذلك فإن اتهام اصواتها بأنها خداع للمجتمع هو عدم صدق مع الذات، ومكر زائف..!

وأعجب العجب أن يحتكم البعض إلى الماضي فيقول: كيف لكم أن تعارضوا هذه الإباحية وفي موروثكم ما هو أشنع من هذا وأبين تصريحا..؟! وفي هذا كأنما احتكموا إلى القرآن العظيم تعالى وجل كلام الله، وليس لمنتوج بشري فيه نقائص ومثالب، فالموروث ليس مقدسا كله حتى تحتكمون إليه، وليس مرجعا حتى تقيسون عليه، هو في الأخير منتوج إنساني فيه من الغثاثة والنفع ما فيه. وليس ما سبق مسوغا لما يأتي فالأمم تمر في تاريخها بمراحل تضعضع ورقي، وعلو وانخفاض، وتماسك وانفراط.

إن دس السم في العسل مصيبة ودهاء يمارسه بعض من نصبوا أنفسهم دعاة حرية في المجتمع، ذلك لمزجهم مفهوم الحرية بالإباحية دون التصريح بها، فماذا يعني أن يدافع إنسان عن إباحية مطلقة بحجة الدفاع عن الحرية..؟ أية حرية يا هذا؟! أية حرية تنتهك الشرف الإنساني، وتحط من الذوق الحسي، وتهبط بالنظرة نحو الجمال..؟!

كما أن الالتواء على الحقيقة مصيبة أعظم حين يخرج الدين من المعادلة، ومن شرف القول، ومن نصوع الحقيقة حين التحاور، ويحضر الرجال دون الحق وهنا نكال بالمقولة الحصيفة لسيدنا علي كرم الله وجهه:" عرفت الرجال بالحق ولم أعرف الحق بالرجال" فكيف لمسلم أن يغيب عنه الحق - وهو لب الدين- ولا تحضر أمامه سوى الشهوات التي تتنازعه، والنزوات التي تتغامزه وهو يجادل في أمر أبانه الدين وأوضح لذي بصيرة مقدماته ونتائجه..؟!

إن من الأهمية جلاء القول لكل ملتبس أن الأصل في الدين الإباحة، والأصل في الأدب والفن الإباحة وهذه أبواب مؤصلة في الموروث الإسلامي، لكن التحريم هو في الفساد والشذوذ والإنحراف فكيف تقبله الفطرة الإنسانية السليمة، وكيف يرتضيه الذوق الطاهر السامي بإسم الحرية والإبداع..؟! وإذا كانت المجتمعات الغربية نفسها صادرت إنتاجات ذات اتجاهات عنصرية في ألمانيا أو ابتذالات جنسية لغواية الأطفال في بريطانيا، أو حظر ما يتعارض مع معتقدات كنسية في فرنسا وغيرها، أفليس من حق مجتمعاتنا الإسلامية أن تصادر ما ينتهك القيم والأخلاق؟!

الأدب والفن كغيرهما من قوالب الإبداع البشري إن لم تكن ذات غايات راقية، وتجليات سامية، تتحقق عبر فضاءات صافية، انقلبت إلى سموم مدسوسة لأنّ الكاتب أو الفنان قد استسلم لنوازعه الشهوانية، وأهوائه المنحرفة ملقيا بكل حاجز اجتماعي أو أخلاقي دون غضاضة وهذا هو الشذوذ والانحراف الذي يبجله البعض على أنه حرية..!! وهكذا تتساقط الحواجز واحدا بعد الآخر، وتفك القيود، وتبطل الضوابط حتى يشيع الإنحلال، وتنتشر الرذائل، وترسف الأمة في غيها فترى في المنكر فضيلة، وفي الخساسة تحضر، وفي الدناءة رفعة، وفي الانحطاط حقا مدنيا مشروعا..! وليس ببعيد نداء هؤلاء باسم الحرية ما قاله أحد المستشرقين: أنك إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فعليك بثلاث وسائل: هدم الأسرة، وهدم التعليم، وإسقاط القدوات والمرجعيات، وأضيف على ذلك: الحط من قدر القيم السامية، وقلب المبادئ والمفاهيم وكل ذلك باسم الحرية والإبداع والتقدم والتحضر..!

وليس من تفسير أوضح للذين ينادون بهدم الحواجز القيمية للمجتمع في أنّهم يسعوون إلى تدجين المجتمع وقبوله بصورة تدريجيّة أنماط الانحطاط الأخلاقي والثقافي بل وحتى الجمالي واعتبارها قيمًا إنسانية راقية تشكل عناصر أساسية في حقوق الإنسان والتحضر وهذا ما حدث في العالم الغربي حتى اتسع الخرق على الراقع فلم تستطع السلطات حتى تقنين الفواحش والموبقات..!!

ليصرح من شاء بمعارضته الصريحة لقيم الدين الفضلى، وأخلاقيات المجتمع العليا فذلك خير له من الإلتواء على نصوص، أو الإلتفاف على موروث، أو الحوم على زائف القول، وواهم الإدعاء، لأنه يخون مبادئه، ويحتال على صدقه مع ذاته..! وليكن منطقيا مع نفسه من أنه إن كان مدافعا عن الرذائل فلا يصادر حق غيره في الدفاع عن الفضائل..

إن قلما بلا فكر كقنديل بلا زيت، وإنّ إبداعًا بلا أخلاق كأعين بلا أحداق، وإن أدبا بلا غاية رفيعة كشجرة حاسرة دون ثمر، وإن فكرًا بلا نفع كسراب ماء بلا نبع، وإنّ حرية دون معاني الرقي زيف وانكفاء.