الشيخ المفتى يؤبن المرحوم إسماعيل ابن سيدى عبد الله

خميس, 02/01/2018 - 10:41
الشيخ المفتى إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدي

بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله.
انصرفنا قبل قليل من الصلاة على العالم ابن العلماء، والفاضل ابن الفضلاء: أستاذِنا الأديب، ووالدنا الحبيب، الشيخ إسماعيل بن محمد عبد الله ابن سيدى عبد الله الذى ترحّل عن دار الغرور، إلى دار البقاء، قبيل منتصف هذه الليلة ليلةِ الأربعاء، لستّ خلون من جمادى الأولى عام تسعة وثلاثين وأربعمائة وألف، لهجرة الرسول الكريم، عليه أفضل الصلاة، وأكمل التسليم.
عرفته وأنا صغير، قبل الإثغار، والدًا بَرّا،ومدرّسا ماهرا، ومربيا حكيما،
فى أيام كانت هى أجملَ ما فى طفولتى، فمنه كنت أتعلم أصول العربية، وأتلقى مبادئ الشريعة، وأسمع الأشعار، ثم آوِى إلى الكُتّاب أدْرُس القرآن.
وكانت براءة الطفولة وطهرُ الحياة من حولنا يعطيان تلك الحِقبة طعما لا يُنسَى، فكلما قدّر لى أن أرى اليوم وجها من تلك الوجوه التى عرفتها فى ذلك الزمن الهارب، أو تخيلت مشهدا من مشاهد تلك الحياة، تراءت لناظرَىّ لوحةٌ متكاملة، كالذى يجد عبَق مسك ذكىّ، فيذْكِره عهدا سعيدا قد تصرّم منذ أمد بعيد.
كان كل شىء من حولنا يهتف بلقبه الأثير الشهير: "سيّدى"، كأنه ليس فى الدنيا "سيّدِى" آخرُ، سواه.
فى تلك المدرسة البدوية المِنجابِ التى أسسها والدى، رحمه الله، فى قلب الصحراء، واختار لها هذا الرجل النادر، الذى وهبها زهرة شبابه، وصفوة عمُره، ليخَرّج أجيالا تحْمل بصماتِه، كان كل شىء يجرى على ما يُرام: تعليما وتنشئة، وتهذيبا وتربية.
كان يعلمنا ونحن صغارٌ، عصرَ كل يوم، أحكام الوضوء والصلاةِ تلقينا وتطبيقا، فيجلس أمامنا، يتوضأ، فنحكِى وُضوءه، ثم يؤذّن ويُقيم، ثم يقدّم أحدَنا إماما، ثم يشرَع فى إلقاء ألفاظ الصلاة إليه، ويُرِيه قيامها وركوعها وسجودها وسائرَ هيئاتها على أكمل وجه، فى طمَأنينة واعتدال.
حتى إذا سلمنا قام فصلى بمن معه من الكبار. وكنا إذا عدنا إلى البيت، أو رأينا الكبار يصلون فى المسجد الذى كان يومئذ عريشا، أو سمعناهم يتلون الكتاب، أو يتدارسون العلم، شعَرنا بتوافق وانسجام بين المدرسة والبيت، فنزداد به ثقة وإعجابا، وله محبة وإكبارا.
وما كنت لأدرك يومئذ شيئا من عبقرية هذا الرجل الفذّ، حتى إذا دخلت معهد أبى تلميت، وعايشت ناسا أتوا من كل حدب وصوب، بدأت أتلمس حينَها ذَرْوا من فضله، وغيضا من علمه ونُبله.
لقد كان يجمع بين التأصيل المحضرىّ الصريح، وبين المنهج التربوىّ الصحيح.
وفوق ذلك، فقد كان يشحذ هِمَمَنا بالمسابقات، واستظهار المحفوظات فى أحداث السيرة، وأحكام العبادات، وقصص الأنبياءـ عليهم الصلاة والسلام ـ ومسائلِ الإعراب، وصياغة الإنشاءات البديعة، والدُّربة على الخط وتذوق جمالياته، وقواعد الإملاء، ثم يَختم السنة بحفل بهيج متوَّج بتمثيليات هادفة، ومائدة كريمة نتشوف إليها، فى لهفة واشتياق، تطلعَ القوم إلى المنّ والسَّلوى.
وتدور الأيام، فإذا بمعلّمى، لِفرْط تواضُعه، وسُمُوّ أخلاقه، يَعُدّنى زميلا، مشاركا فى الميدان، يَعرض علىّ أشعاره، ويطلب منى الرأى فيها، بإلحاح.
وما زرته بعدُ إلا وجدت فى بيته أطفالا من الغرباء يُؤويهم ويدرّسهم القرآن والأحكام، ويقوم بمُؤنتهم وجميع شؤونهم، محتسبا للأجر، مغتنما للذخر، فإذا سألته عنهم ارتاح للسؤال، وأرانى الألواح، وحدثنى عن بلادهم وذويهم. وما رأيته فى تلك المجالس إلا لهِجا بالذكر والثناء على الله عز وجل، بما هو أهله، شاكرا لأنعُمه، مستغفرا منيبا، أو محَدّثا مفيدا.
وكان لديه من التواريخ والأنساب والأخبار والسيَر وأيام الناس والأشعار والآداب والنوازل والفوائد ما تُشدّ إليه الرحال، إلى نفْس فكِهة مَرِحة، فى اتزان ورزانة وأدب، إلى دماثةٍ فى الخُلق، ومتعة فى الحديث، وحب للعلم والعلماء، والظرْف والظرفاء.
وكان على درجة عظيمة من الذكاء والعبقرية والدهاء وسَعة الصدر، والثقة بالنفس، وقوة الشخصية، وشدة العارضة، يتحدى طوامح الألحاظ، فى المحافل الجامعة، والمجامع الحافلة، خطيبا مفوَّها، ومنشدا مُجيدا.
وقد خبَرت فيه من الثقة بالله سبحانه، واليقين بما عنده، ومن قوة الإيمان به، والرضا بما قسَم له، والتسليمِ لقضائه وقدَره، ما يعز نظيره، فى هذه الأعصار.
وكذلك كان آباؤه من قبل، آلُ سيدى أحمد بنِ محمّ الخليليون، أبناءُ المرابط الأبياريون؛
فقد كانوا ذوى جلَد وجُرأة وصبر ونُبل وفضل.
وكيف لا، وهم فى العلم والفقه والقضاء والسؤدد والمجد والرئاسة والصدارة، بالمقام المعلوم؟
***
ولقد كان والده المباشر الشيخ محمد عبد الله العلامة القارئ الفقيه النحوىّ، على درجة عظيمة من القوة فى الحق، والصراحة فى القول، لا يخاف فى الله لومة لائم، إلى اجتهاد دائم، وتشمير منقطع النظير فى التأله والعبادة والنسك والزهادة والانقطاع إلى الله عز وجل، فى الخلَوات والجلَوات.
وكانت والدته خديجة بنت الشيخ سيدى المختار ابن الشيخ سيدِىَ امرأةً منيبة صالحة، عابدة قانتة، قوّامة صوّامة، بَرَّةً بأبويْها، قائمة بما عليها. وكذلك كان أخوه الشيخ إبراهيم ـ شفاه الله ـ وأخواته الفُضْلَيات العابدات القارئات ـ تغمدهن الله برحمته، وأسكنهن فى مستقَر دار كرامته.
وكان صاحبنا إذا حدّث عن أخواله آلِ الشيخ سيدىَ، تأخذه هِزّة وأريحيةٌ، كما قال الشاعر، فيما أنشده ابن الأنبارىّ:
(وتأخذه عند المكارم هِزَّة/  كما اهتز تحت البارح الفنَنُ الرطب)
***

وما أجدرَ آلَ الشيخ أن ينشِدوا فيه المقطع الذى منه هذا البيتُ، فهو به خليق:
"إذا كانَ أبناءُ الرجال حزازةً/      فأنتَ الحلالُ الحلو والباردُ العَذْبُ
لنا جانبٌ منه يلينُ وجانــــــبٌ /   ثقيلٌ على الأعداءِ مَرْكَبهُ صَعْبُ
يخبِّرنى عما سألتُ، بِهَيــــــــــِّنٍ /      من القولِ لا جافى الكلامِ ولا لَغْبُ
ولا يبتغى أَمْناً وصاحبُ رحلِهِ/   بخوفٍ إذا ما ضَمَّ صاحِبَهُ الجَنْبُ
سريعٌ إلى الأضيافِ فى ليلةِ الطوَى/ إذا اجتمعَ الشَّفَّانُ والبلدُ الجَدبُ
وتأخذه عند المكارم هِــــــــــــزّةٌ/    كما اهتزَّ تحتَ البارحِ الفَنَنُ الرّطْبُ"
***
وإن أنسَ لا أنسَ قولته لأبى رحمه الله: المحيا محياكم والممات مماتكم، قولةَ النبىّ صلى الله عليه وسلم للأنصار.
***
وبمغيبه اليوم عن عمُر يناهز الرابعة والثمانين، بالحساب الشرعىّ، تخسَر الأمة عالِما مربيا نذر نفسه، بكل إخلاص وتفانٍ، للبذل والنفع والعطاء، وعلَما بارزا من أعلام جيل الرواد المؤسسين
للتعليم الأصيل، وللنهضة العلمية والأدبية، فى هذه الربوع المِعطاء.
***
فنسأل الله عز وجل، بمنه وكرمه، أن يبوِّئه منزلة عالية فى جناتٍ ونهَر، فى مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأن يؤتيَه زلفى وحسنَ مآب، وأن يتولى بناتِه وبنيه، وعشيرتَه وذويه بمزيد من فضله وإنعامه، وبِرّه وإكرامه. إنه سميع مجيب. وإنا لله وإنا إليه راجعون.