محمدٌ ولد إشدو يكتب .. عند ما يصعد قديس إلى الله

ثلاثاء, 01/01/2019 - 00:58

رجل يختلف عن معظم الرجال، وطبيب ليس كمثله جل الأطباء، وشيخ تميَّز عن أغلب المشايخ! إنه الرجل الفاضل والطبيب الصيدلي العظيم والشيخ الجليل محمود خليفه.

ملاك من أرض الكنانة قيضه الله رحمة لعباده في ربوعنا النائية المتخلفة، فكان بلسما لآلامهم، وشفاء لمرضاهم، ورحمة لفقرائهم والمساكين.. وعندما بلغ الكتاب أجله توفاه ورده إليه، وإنا لله وإنا إليه راجعون!

فكيف جاء هذا القديس إلى أرضنا، وأين استقرت به النوى، وبدأ عطاؤه الوفير؟

إنها قصة عجيبة! قضت مشيئة الله (والله غالب على أمره!) أن تتعطل سيارة الطبيب الصيدلاني الشاب ذات ليلة وهو في طريقه إلى بيته في الإسكندرية فيترجل منتظرا من يوصله ويكون أول قادم إليه موظف سام في سفارة دولة الكويت.. ويحصل التعارف، فيقول الموظف للطبيب: دولة الكويت لديها وظيفة شاغرة في مستشفى كويتي بمدينة تجگجه في موريتانيا؛ فهل ترغب في شغل تلك الوظيفة؟ وبعد صمت وتدبر يقبل الطبيب التحدي ويوافق على العرض! ثم يلتحق بعمله في تجگجة. ومنها تبدأ قصة حب أبدي بينه وبين موريتانيا. حب دام إحدى وثلاثين سنة من عمره، وها هو ذا يمتد ما شاء الله إلى قيامته!

        في مدينة تجگجة عاصمة ولاية تگانت التي كانت أول محطاته في موريتانيا اكتشف الاسكندري الوافد مجتمع البيظان الغامض، حيث تتماهى البساطة والعمق في قوس قزح حضاري وأخلاقي بجميع ألوان الطيف، فنشأت بينهما علاقة ود حميمة حفزته إلى التفاني في العمل وخدمة المرضى وفعل الخير. وقد رفدت هذا النحو في نفسه الزكية المجبولة على البر علاقة روحية وارتباط وثيق نشآ بينه وبين أحد صلحاء المدينة هو الشيخ حمود ولد عبد الحميد (رحمه الله) الذي تأثر به تأثرا كبيرا وأصبح مثله الأعلى في الصلاح والبركة والخير، وقرينه الذي يلازمه في أوقات فراغه. وروى لي عنه – وعن زجه رقية- كرامات عجيبة، ولا غرو؛ فعالم التصوف والصلاح غير غريب على من نمته حضارة أنجبت الحلاج وابن عربي وابن عطاء الله ورابعة العدوية.

        وعند ما انتهى عقده مع دولة الكويت انتقل إلى مدينة انواكشوط حيث فتح عيادة متواضعة للطب البديل سرعان ما أصبحت قبلة وملاذا للمرضى من جميع الأوساط والفئات الاجتماعية الذين ينالون الشفاء والخير على يديه المباركتين.

        وفي هذه الفترة بالذات تعرفت على الشيخ محمود في المنتديات الثقافية، والاحتفالات التي تقيمها بعض السفارات العربية. كان بسيطا وودودا وناسكا ومرحا يحب الجميع ويحبه الجميع.

        وكنت من بين من أحبوه لفضله، وبساطته، وحبه للخير. وقد بادلني الحب لأسباب يردها هو أولا إلى الإعجاب بمواقفي وكتاباتي التي يقرؤها باهتمام وانتباه شديد. ولكن علاقاتنا سرعان ما تطورت فجأة عندما صار د. محمود أخي!

        كانت والدتي (رحمها الله) وهي أقعد مجموعتها إلى "المشتفى ببروقه وبريقه" الولي الصالح "حبيب الله نا المختار" مقعدة منذ زمن، وتعاني من آلام شديدة عجز الطب الحديث عن علاجها أو التخفيف منها إلا بالمهدئات ذات العواقب والمضاعفات الوخيمة، رغم جميع ما بذلناه من جهود وما تعلقنا به من أسباب! وفي فترة من فترات اليأس والكرب ظهر د. محمود فجأة في محيطنا، حاملا إليها وإلينا العافية والبسمة والأمل. كان يقول عنها إنها ولية من أوليا الله، وإنه يرى فيها نسخة طبق الأصل من جدته المرحومة، فأدمن عيادتها وتعهدها وعلاجها بالمواد والزيوت الطبيعية ومختلف أنواع العسل، وملأ أوقات زيارته لها بالحديث معها و "الديگه" - حسب تعبيره- حول ثمن أدويته وعلاجه الذي يريده باهظا ملايين من الأوقية، أو رؤوسا من معيزها التي دونها ما دون قتل "عليان" (جمل كليب) أو ما دون أخذ "سكاب" المنيعة التي "لا تعار ولا تباع".. ولم يكن ذلك عن حرص أو بخل حاشى لله؛ بل رشدا، فهي لا تقبل الغبن والابتزاز! الشيء الذي يشعل صراعات وحروبا طاحنة بين "أم محمود" ومحمود، ينقسم فيها العيال إلى معسكرين: مع وضد.. وفي نهاية المطاف تضع الحرب أوزارها وتنتهي دائما بصلح يكرس هزيمة محمود وتنازله عن الغنم والملايين وقبوله مبدئيا بدراهم وهمية معدودة! وفي أتون تلك الحرب، ونشوة انتصار الوالدة على ابنها وطبيبها محمود تنسى الألم تماما، ويروق مزاجها وتقبل تناول أدويته الشافية وأغذيته المنعشة بعد أن صارت رخيصة وفي متناول ما تدخره هي من مال؛ إذ من شيمها الاعتماد على النفس، وعدم الاقتراض من أي كان!

        وهكذا دواليك نحو أزيد من عقد من الزمن إلى أن انتقلت أمنا راضية مرضية إلى جوار ربها يوم الجمعة 27 أكتوبر 2017 عن عمر ناهز مائة سنة قمرية والحمد لله.

كان مصاب محمود في والدتنا جللا مثل مصابنا! وإن أنس لا أنس أن عبراتي لم تنهمر عليها إلا في موقفين اثنين: عندما زرت دارها بعد أيام من وفاتها، وعندما زرت أخي محمود في عيادته! لقد كان وقع الفاجعة مخيما علينا كالكابوس، ولم يدر حديثنا كالعادة عن حالة أمنا الصحية والفحوص الواجب إجراؤها، ولم أخرج من عيادته محملا بالأدوية والهدايا المخصصة لها والمجلوبة من جميع أصقاع العالم.

        ترى أيهما أدهى وأمر: يتم الصغير، أم لوعة الفراق لدى الكبير؟! لا شك أن اليتم - وخاصة من الأم- يهدم الوجود المادي للصغير قبل المعنوي لعدم إدراكه بُعد ما حل به معنويا بسبب صغر عقله ولطف الله به.. أما الكبير - وخاصة إذا كان شيخا في عمري- فإن يتمه يهدم كيانيه المادي والمعنوي معا: فأنت في هذه الحالة لا تفقد أرومتك وسبب وجودك ومربيتك وحاضنتك ومعلمتك الأولى والأخيرة وكالئتك بالحب الصادق والدعاء فحسب؛ بل تفقد كذلك إلفا وصديقا التصقت به وامتزجت روحاكما أزيد من سبعة عقود، إلفا يشكل رحيله نذير رحيلك الوشيك، إلفا برحيله يناديك ملك: "يا هذا لقد مات من كنا نكرمك من أجله:!

أنا لا أعرف مدى شعوركم بهذا الرزء وأنعام لطف الله بكم، ولكني لا أخفيكم أني لم أجد في الدنيا التي خبرتها وحلبت شطريها نعيما ولذة أحلى من أنعم الله علي حين كنت أتكوم - وأنا شيخ- في حضن أمي العجوز، فتحدثني "حديث عجيب كله وغريب" وتشرع أصابعها الملساء الحنون تداعب ما أبقت العاديات من شعر لمتي البالي! وإني أشهدكم على حمدي لربي الكريم على نعمه التي أنعم علي وعلى والدي، وأتضرع إليه أن يمنحني وذويَّ الصبر، ويلطف بنا بعد رحيلهما، ويغفر لي ولهم ما ضيعنا من حقوقهما، ويرحمهما رحمة واسعة. إنه سميع مجيب!

وبعد أقل من أربعة عشر شهرا من رحيل الوالدة رحل محمود أيضا، تغمدهما الله برحماته.

في آخر لقاء لي بأخي د. محمود تشبث بي واحتضنني بكل ما أوتي من ضعف، لحد أنني ما زلت أتصور حتى الآن أني بين ذراعيه النحيلين، وأوصاني على أمور منها عدم نقله ودفنه في موريتانيا. وقد تحققت رغبته بفضل الله حيث تمت الصلاة عليه عصر الخميس 13 /12/ 018 في مسجد شجرة الأنبياء، ووُوري في ثرى مقبرة لكصر المباركة، من طرف كوكبة من أحبابه وجل أفراد أسرتي، وبحضور ابنه خالد بارك الله، فيه وبإشراف الشيخ والإمام الجليل أحمد التجاني بل!             

رحم الله الشيخ الدكتور محمود خليفة، وتقبله في عليين، وجزاه خيرا عنا وعن المسلمين، وبارك في خلفه، وألهمنا وإياهم الصبر والسلوان. إنه سميع مجيب.