موريتانيا والسودان .. الماضي والحاضر والمستقبل

أربعاء, 03/20/2019 - 12:38

بمجرد خروجي من طائرة الخطوط الجوية السودانية التي أقلتني إلى مطار الخرطوم غمرتني نسمات دافئة مفعمة بعبق الزمان ونكهة المكان وتخيلت لبرهة أنني عدت أدراجي إلى مطار نواكشوط، فمكبرات صوت مآذن المساجد المجاورة تنفث الأذان بأصوات شجية تدخل الوجدان دون جواز سفر تذكرك بعمق علاقة الأرض بالسماء .. والملاحف القزحية والقمصان الفضفاضة البيضاء والوجوه الصبوحة تتراءي هنا وهناك .. تستقطبك عفوية أخاذة وتعود بك الذاكرة إلى هرج ومرج مطارات المنكب البرزخي الذي غادرته منذ أيام، فهذا المكان مميز ومختلف كليا عن القاهرة التي تركتها قبل ساعات وعن جدة التي توقفت بها قبل يومين رغم قربه الجغرافي من هذه ومشاطأته لتلك .. تتساءل بصمت .. أيغدر التاريخ بالجغرافيا إلى هذا الحد؟ أيسافر الانسان ليعود إلى ذاته إلى محطة ثلاثية الأبعاد ينصهر فيها الماضي والحاضر في مستقبل أثافيه الدين والعرق ووحدة التطلعات ..

طبعا لم أكن أول المنبهرين بهذا التلاقي الخلاق وقطعا لن أكون آخرهم، ورغم أني أول سفير رسمي لموريتانيا بالسودان فقد كنت مقتنعا أنه سبقتني كوكبة من كبار السفراء، من جهابذة العلماء الشناقطة، كوكبة من العباد والزهاد والنساك والمتصوفة من سالكي دروب المحجة البيضاء عبر كل الأزمنة (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).. هؤلاء السفراء كانت أوراق اعتمادهم كتبا في شتى المجالات وكانت ديبلوماسيتهم علما نافعا لا يفني ووفقوا في زرع شجرة تواصل وتفاعل أصلها ثابت في النفوس وفرعها في السماء تؤتي أكلها حبا ووسطية وتكاملا بين شعبين تغلبا بعبقرية على فرقة الجغرافيا فالتحما بصورة أزلية .. كنت وأنا أنزل سلم الطائرة مسترسلا في تداعياتي الوجدانية حتى إنني خلال مصافحتي لمسؤولي الخارجية ولممثلي السلك الديبلوماسي وومثلي الشناقطة السودانيين تصورت أنني أنا من يَستقبل لا من يُستقبل، فالوصول بطعم العودة أمر في غاية المتعة الوجدانية.

أحاطني الاشقاء مشكورين بعنايتهم وكرمهم التليد وقدمت نسخة من أوراق اعتمادي لوزير الخارجية في ظرف أسبوع وتشرفت بمقابلة فخامة الرئيس مطلع الأسبوع الثاني وبتقديم أوراق اعتمادي وخصني فخامته بمقابلة لا تنسي فهو مقدر أكثر مني لما شعرت به من عمق العلاقة وخصوصيتها وأزليتها وهو تقدير لمسته لدى قيادة البلدين ولمست عمق الارادة الراسخة لاعطاء العلاقات الموريتانية السودانية كل زخمها الحضاري الروحي والاقتصادي والاجتماعي والتكاملي في شتي المجالات، وقد تجسد ذلك في حينه في تبادل الزيارات الرئاسية وفي تشكيل اللجان وفرق العمل المشتركة ووقع الجانبان خلال سنة واحدة 14 اتفاقية تعاون وتوصلا إلى تفاهمات ووضعا آليات ثنائية فعالة لتنسيق المواقف في المحافل الاقلمية والدولية واستشرفا باستمرار آفاق توطيد تعاون أخوي بناء ومن طراز جديد.

وبما أن حاضر هذه العلاقات مطمئن وتسهر عليه عقول مستنيرة وتسيره أيادي أمينة فإنني أعود قليلا للوراء متلمسا التضاريس الروحية لطريق الحج الذي مازال وسيظل سالكا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمعبدو هذا الطريق هم من زرع الشجرة التي أثمرت هذا التلاقي الذي جعل كل موريتاني وكل سوداني يرى نفسه في الآخر بصورة عفوية وتلقائية.

 

موريتانيا والسودان .. قرون من التفاعل والتكامل

نسجت موريتانيا والسودان على مر العصور علاقات فريدة من نوعها قائمة على وحدة العرق والمذهب والمقرإ والوجدان فقد طرق الشناقطة أرض السودان وهم يقصدون الحج وكانت المحطة الأولي بالنسبة لهم هي سلطنة دافور التي تعد قبائل الزغاوة من قبائلها المعتبرة والزغاوة هؤلاء معدودون من طرف ابن خلدون ضمن شعب صنهاجة العريق الذي تنحدر منه قبائل موريتانيا الأصيلة مثل "لمتونه" و "مسوفه" ناهيك عن أن قبائل المعقل جزء من القبائل الهلالية التي سكنت صعيد مصر في عهد الفاطميين قبل أن تنتشر في كافة الغرب الاسلامي ووادي النيل، أما الجذور الافريقية لموريتانيا والسودان فهي أعرق وأوضح من أن يقع فيها أي لبس، وتشترك موريتانيا والسودان في أن بلاد النوبة ومملكة غانا كانتا تمدان حوض البحر الابيض المتوسط بالذهب، وهي خبرة قديمة اضمحلت لدي الموريتانيين وبقيت حاضرة لدى السودانيين مما جعل أهل شنقيط يستنجدون بخبرة إخوانهم في السودان في السنوات الأخيرة بعد أن أدخلت الاكتشافات المنجمية موريتانيا عصر الذهب.

بدأ سكان شنقيط يحجون عبر الطريق المار بالسودان منذ احتلال الفرنسيين للجزائر سنة 1830 حيث إن الطريق البري المغاربي أصبح مسدودا والزاورت إذن يمينا لتمر بالسودان فتعود الموريتانيون الطريق الجديد وما لبثوا أن ألفوه فصاروا يقولون إنهم يحملون من الزاد مايكفيهم للوصول إلى بلاد السودان، بلاد الكرم والضيافة والأريحية المطلقة، لأنهم عندما يصلون تلك الربوع يكيهم كرم الناس زادا وتنتهي متاعب الرحلة، فقد وجد الشناقطة في السودان بيئة طبق الاصل لبيئتهم التي عهدوها فطاب لهم المقام وتوطن كثير منهم تلك الأرض المباركة، ومن شهود ذلك أن اول رئيس للبرلمان السوداني كان شنقيطيا يعود نسبه لقبيلة شريفة من وسط موريتانيا، ضف إلى ذلك أن كثيرا من علماء مويتانيا كآبه ولد أخطور مؤلف كتاب "أضواء البيان في تفسير القرار بالقرآن" مكث طويلا بالسودان وله حكايات ومناظرات خالدة مع علمائها كما أن الكثير من الإجازات العلمية في السودان يتخلله سند شنقيطي ومما هو متواتر أن سند ورد الطريقة "المرغنية" التي لعبت دورا هاما بالسودان يمر بالعالم الموريتاني محمذن بن حبيب الله اليعقوبي المشهور بـ "المجيدري ولد حب الله" والقائمة تطول.

تفاعل اجتماعي في كل الاتجاهات

وصف الشناقطة السودان بأنه بلاد الأمن والأمان والإيمان وكرامة الانسان وقد تفاعلوا مع معظم قبائل السودان ففي أقصى الشمال تفاعلوا مع "النوبيين" بفرعيهم "الحلفاويين" و "السكوت" و "المحس" ومن يليهم من "الدناقله" وإلى الجنوب من ذلك تواصلوا مع "الشايجية" و "البديريه" و "المناصير" وقرب النيل تواصلوا مع "الجعليين" وفي وسط البلاد طاب لهم المقام مع "المسلمية" و "الرفاعيين" و "الشكرية" و "الكواهل" وفي كردوفان اختلط الشناقطة بقبائل "لبديرية" و "الحمر" و "المسيرية" وقبائل "النوبة" بفروعها المختلفة.

وفي دافور كان التواصل مع "التعاييشة" و "الفور" و "الرزيقات" و "البرقد" و "بني وهلبة" و "الزغاوة" وغيرهم..

وفي النيل الأزرق تحدث الشناقطة عن صلات بقبائل "البرتا" و "الأنقسنا" و "الفونج" وفي شرق السودان الذي كان محطة مهمة تعمق التفاعل مع "الهدندوه" و "بني عامر" و "الحلنفة" و "الأمرمر".

لقد أنتج هذا التفاعل العفوي أجيالا منها من يعرف نفسه حاليا بأبناء الشناقيط ومنها من انصهر في حاضنته الاجتماعية القبلية ومنها من سلك طريق العودة باحثا عن جذوره الشنقيطية ومنهم من استغل تطور المواصلات وأصبح منتقلا بين وطن واحد يمتد من ضفة المحيط الأطلسي إلى ضفاف البحر الأحمر وأصبح يغطي كل هذه المساحة الواسعة جغرافيا المشحونة وجدانيا بكل معاني الحب والوجدان فحين يتجهون إلى شنقيط يحنون لأرض السودان وحين يعودون لأرض السودان يعاودهم الحنين لأرض الأجداد ولسان حالهم يردد مع عباس بن الأحنف:

وإني لأستهدي الرياح سلامـكم  ***   إن أقبلت من نحوكم بهبوبي

وأسألها حـــمـل الســلام إلـيكم   ***  فإن هي يوما بلغت فأجــيبي

أري البين يشكوه المحبون كلهم ***  فيارب قرب دار كل حــبيب

 

طريق الحج .. طريق المستقبل

طريق الحج كان البداية ويحمل في جنباته مقومات الاستمرارية وهو طريق حضاري يبدأ من ضفة المحيط الأطلسي حتي البحر الأحمر مرورا بمالي والنيجر والتشاد وصولا للسودان التي هي محطة التلاقي والتواصل في كل الاتجاهات مع أعماق القارة السمراء وهي الاطلالة السالكة دوما نحو أرض الحرم التي تهوي إليها أفئدة الناس من كل حدب وصوب .. فلما ذا لا تحاول دولنا تحويل طريق الحج إلى مسار تنموي اقليمي اندماجي يشكل مشروع السور الافريقي الاخضر رصيفه البيئي وتتحول حواضره إلى معالم سياحية روحية وإلي أقطاب ديناميكية تنموية مستدامة؟

ألا يمكن تعبيد طريق الحج البري ليكون الرابط بين بلدان إفريقية عديدة ويمثل عامل ربط بين آسيا وأوروبا من خلال البوابة الموريتانية؟

ألا يمكن تحويله إلى مسار مشترك للرحلات الجوية الميسرة؟

ألا يمكن إعادة الحياة لمحطاته الخالدة التي اندثر بعضها وتحول البعض الآخر إلى مدن تتلمس اليوم ببطء طريقها نحو تنمية حضارية تعوزها التصورات الناجعة وتنقصها الموارد؟

ألا يمكن تصور مشروع نموذجي سداسي سعودي موريتاني سوداني مالي نجيري تشادي ينعش هذه المناطق التي حباها الله بموارد طبيعية معتبرة وبشعوب عبقرية نسبة كبيرة منها من الشباب الطامحين للعمل؟

ألا يمكن توسيع مسارات طريق الحج ليستوعب فضاءات أرحب في زمن العولمة الذي لا بقاء فيه إلا للتكتلات الكبرى؟

في اعتقادي أن إعادة الاعتبار لطريق الحج وتحويله إلى مسار اندماجي تكاملي تنموي يخدم الجميع وهو أمر حيوي في الحاضر والمسقبل وينتظر من موريتانيا والسودان والسعودية أن تكون المبادرة وأن تشكل قاطرة التحول فهذا الثلاثي كان في الماضي المنطلق والمعبر ومحطة الوصول ويمكن أن يشكل في الحاضر قوة الدفع وبؤرة الاستقطاب لمشروع كبير جدوائيته مضمونة، لمشروع كان له ما قبله وهو مؤهل لأن يكون له ما بعهده.

أحمد مصطفى / سفير سابق