حتى قبل أن تضع "رباب" طفلتها "سلم بوها" كانت عجائز الحي البدوي المرتمي بين الجبل والبطحاء تسترقن النظر إلى أعراض حملها وتتنبأن بأن الأعراض السيئة مثل انتفاخ البطن والكسل تعني أن الجنين من جنس الإناث.
لم تكن رباب تكترث... كانت تعاني أوجاعا بدنية ونفسية كبيرة، وحين أدركها المخاض آوت إلى حصير بفناء الخيمة وحاولت أن تكتم آلامها حتى النهاية، لكن أوجاع المخاض كانت فوق التحمل... وتعالت الآهات وطلبات الفرج وتحلق النسوة وأسندت مهمة المتابعة لقابلة تقليدية ذات صبر وجلد متسمة بالقسوة خبرت هذه المواقف...
كانت تعصر بطن رباب عصرا وتأمرها بقسوة بأن تبذل مجهودا إضافيا لكي يخرج الجنين...
فجأة صرخت رباب صرخة عقبها هدوء ودخلت في غيبوبة.. أبلغت القابلة الشمطاء النسوة من حولها بأن تلك كانت صرخة رأس الجنين، وأن الفرج قريب... وفعلا ما هي إلا لحظات حتى تعالى بكاء الوافدة الجديدة لأنها كانت بنتا وبمجرد تأكد القابلة من جنسها صدمت... وصاحت على مسامع الأم التي تصارع الموت.. استفيقي لقد تعبت من أجل لا شيء... لقد أنجبت بنتا... "عزبة" لعينة...
حاولت أم رباب قطع هذا الحديث قائلة انه في غير محله، وأن ما يهمها هو سلامة "رباب" بالدرجة الأولى وأنها تحمد الله أن رزقها جنينا حيا سليما... لكن وجوه النسوة كانت واجمة فإنجاب بنت في هذه الربوع ليس مدعاة للفرح خاصة إذا كانت سبقتها أخواتها، وكانت أمها مطلقة... استفاقت رباب رغم النزيف الحاد وانهيار القوى البدنية وفهمت مما سمعته أنها أنجبت بنتا... بدأت تحرك أصابعها المرتعشة بحثا عن هذه الضيفة الصغيرة التي لا يحتفي بها أحد والتي تحاسب على جرم لم تقترفه، وتدخل الحياة في أجواء مكفهرة...
بعد ساعة استكملت عملية الولادة ولفت المولودة في قطعة قماش، وبدأت تبكي... تندرت بعض النسوة بشراهة البنت وحاولت إحداهن أن تناولها ثديها في انتظار أن تستطيع الأم التكفل بذلك... شاع الخبر في الحي.. تشاورت أسرة رباب حول ضرورة إبلاغ أبيها المقيم في قرية مجاورة مع زوجته الجديدة فمجرد ميلاد البنت يعني إنهاء عدة أبيها من أمها المطلقة... أخيرا استقر الرأي على عدم إبلاغه وترك الأمور تصل إليه عبر قنوات أخرى غير أهلية... فمعاملاته مع رباب اتسمت بالقسوة وكان أكرهها على إنجاب أربع بنات في ظرف أربع سنوات وأحبلها بالأخيرة غصبا عنها وطلقها في شهر حملها الرابع...
كانت المولودة الجديدة المسكينة ثمرة زواج فاشل وحلقة أخرى من حلقات معاناة أمها التي لا تنتهي تلك المعاناة التي تخامر رباب رغبة في أن تجنب المولودة البريئة لأهوالها التي لا تطاق.
فصول عنف ومعاناة مؤلمة
صبيحة اليوم السابع حضرت أخت والد البنت معتذرة عن حضوره هو وذبح خالها خروفا واحدا رغم وفرة البهائم لأن البنت في العرف المحلي لا تستحق أكثر من ذلك أما المولود الذكر فتذبح له ذبائح متعددة وتنحر النحائر وتقام الولائم ويبتهج الناس... بالنسبة لبنت رباب المهم أن تحترم المظاهر فقط...
إقترحت العمة أن تسمى المولودة "إسلم بوها" ورغم اعتراض رباب قبل أهلها إكراما لضيفة تربطهم بها علاقة نسب ومصاهرة... سميت البنت "سلم بوها" دعاءا بطول العمر لأب طلق أمها وتجهالها وحرمانا لها من حق إسم يصون خصوصيتها ويحترم مشاعر أمها.
عندما أبلغ الأب بمولودته ظل وجهه مسودا وهو كظيم... وتفوه بعبارات من قبيل (نعرف آن عن يوم ما أتخل العيل) ولذلك فارقتها.
سلم بوها تبدأ مشوار معاناتها الخاصة
في يوم العقيقة حلقوا شعر الرضيعة بآلة حادة رغم بكائها المستمر، وخلال ساعات المساء كانت تتضور من آلام في بطنها رافقتها على مدى 90 يوما وكانت قابلة الحي تطمئن أمها بأن مرد تلك الآلام هي عوالق من مخلفات الحمل وأن سلاسة الهضم قد تخلصها من ذلك الألم مع الزمن.
بعد ثلاثة أشهر حلت مناسبة أخرى هي مناسبة الخفاض... مدت سلم بوه ذات صباح وأمسك النسوة بأطرافها وفتحن رجليها الصغيرتين لتعبث القابلة العجوز بأعضائها التناسلية بآلة حادة، ورغم بكاء الطفلة وبكاء أمها وعدم رغبتها في العملية تواصلت العملية المؤلمة وقطعت القابلة كل شيء وغرقت سلم خالها في الدماء وكادت أن تفارق الحياة، ولم تقدم لها إلا مراهم تقليدية زادت من حدة الالتهابات، وبعد أيام اضطرت رباب إلى حمل ابنتها إلى ممرض محلي يقضي إجازة بقرية مجاورة.
عند المعاينة أبلغها الممرض أن "الجراحة التقليدية" غاصت كثيرا في العضو التناسلي وأن الروائح والآلام تؤشر لوجود حالة التهاب حادة وقد تكون قاتلة، وأنه ينصح بالانتقال إلى مركز صحي بالمدينة، وعندما أبلغته رباب باكية استحالة ذلك ماديا رد الممرض بأنه يتوفر على مضادات حيوية ومهدئات للكبار لا تناسب الأطفال وأنه سيقترح عليها بضعة كبصلات وعليها أن تقسم محتوياتها إلى نصفين وتذيبها في ماء وتسقيها للطفلة على جرعات، ونفس الشيء مع مسكنات ارتفاع الحرارة وسيعطيها شيئا للمسح الخارجي...
قبلت الأم واعتبرت ذلك بادرة خلاص ونفذت حرفيا أوامر الممرض رغم أن البنت كانت تدخل في نوبات تقيء شديدة... عادت رباب وسلم بوها إلى القرية وبدأت الأخيرة تتماثل للشفاء.
بعد سنوات فتح قسم ابتدائي في القرية المجاورة وانتقلت رباب ببناتها في ظروف صعبة إلى هناك... لم توفق الكبريات أما سلم بوها فكانت حادة الذكاء وحظيت بعطف المعلمين ورعايتهم، ورغم تواضع الوسائل نجحت الأولى في مسابقة دخول الإعدادية محليا، لكن انتقال الأسرة إلى مكان به إعدادية كان ضربا من ضروب الخيال... خلال عشرية عمرها الأولى كانت سلم بوها رغم ذكائها الفطري تتعرض لتوبيخ وتعنيف مستمرين فخالتها تطالبها بكتم صوتها وحبس أنفاسها وتردد على مسامعها بأن: (المرأة من بيتها إلى لحدها)... وأن المرأة يجب أن تكون حفنة تراب جامدة لا تتفوه بأي شيء يدفن الرجل فيها أسراره وأشياءه الأخرى، وأحيانا نادرة كانت الخالة تردد عبارات من قبيل "النساء أفرشة الأراذل وعمائم المكارم"، ولم تكن الصغيرة تدرك كل مرامي هذه التنشئة التي كانت توطئ لأشياء أخرى كانت ستواجهها لاحقا... حتى ابن خالتها الصغير كان يتمتع بكل الأشياء التي لا تتمتع هي بها ومنها الاعتبار والاستقلالية والحظوة بما يتوفر من حليب وأكل، وكان يستفزها ويضربها ويختلي بها أحيانا في ممارسات أخرى ولم تكن تتكلم... حتى المعلم العجوز حاول مرات عديدة مقايضة الاهتمام بها من خلال دغدغة وفرك مساقط جسمها التي لم تتبلور بعد كان يشعرها أحيانا بشيء من الألم وعندما تبكي يحول الموضوع إلى عقوبة لترك الواجبات... لقد أوصلها كل هذا الصبر وهذا التحمل إلى إنهاء تعليمها الإبتدائي بنجاح وهي الآن على عتبات مرحلة جديدة.
البحث عن حل ممكن من مواصلة الدراسة
حاولت رباب إيجاد حل وطرقت كل الأبواب وأخيرا انتدبت من يكلم الأب ليأخذ البنت الذكية إلى جانبه ويدخلها الإعدايدة المجاورة لدكانه... لم يكترث الأب بالرسائل الأولى وبعد أن ضاعت شبه سنة دراسية أبلغهم أنه قادم صحبة ضيف جديد هو أحد أبناء عمومتهم التجار بإفريقيا.
بعد طول انتظار قدم الأب في سيارة قريبه الضيف وتكلفت رباب ما هو متاح للضيافة، وكم كانت مفاجأتها عندما طلب الأب حضور البنات وطلب منهن السلام على "القريب"، وتهامس بضع كلمات سرا مع الضيف بعدها خرج البنات وطلب هو الإنفراد بأمهن التي لا تكن له كبير احترام.
قال لها متهلل الأسارير إن ابن عمه المسن التاجر الميسور الذي يكبره سنا يريد مصاهرة الأسرة وأن "عينه استقرت" على إسلم بوها أصغر البنات... تلك نتيجة "عرضة السلام" التي دعا لها الوالد المقصر بناته اللواتي لم يرهن إلا مرات نادرة...
لم تكن رباب موافقة فاعترضت، ولكن الأب أصر وأزبد وأرعد وتوعد وقال إنه سيزوج مكرهته غيابيا في داره هو وأنه سيترك للزوج موضوع إحضارها... ألحت عليه رباب في طلب أخير أن يكون هو من يفاتح البنت، فأصر بأنه هو ولي أمرها ويحق له أن يزوجها كما يشاء، وبعد إلحاح ناداها فحضرت، وبعد تلعثم قال لها سأزوجك، وسيحضر ابن عمك ليأخذك إلى حيث يريد... لم تفهم سلم بوها المقطع الأول وتصورت أنها مسافرة للدراسة فخرجت فرحة إلى أخواتها تصيح سأعود للمدرسة، طلب منها أبوها أن تقترب، فلما دنت أبلغها أنت ذاهبة مع زوجك ولست ذاهبة للمدرسة... قالت لا لا لا!!! لم يتركها تكمل صفعها صفعة قوية ونهرها... عليك أن تتعلمي كيف تخاطبين الرجال يا لسوء تربية النساء!
في تلك الأثناء كان إبن العم العريس قد حضر للتوديع وتفوه بعبارات استحسان وعاد الأب وضيفه إلى قرية الأب وهنالك زوجت سلم بوها في غيابها وغياب أمها وبدأت حلقة جديدة من مسلسل حياتها المأساوية.
عش الزوجية المميت
بعد أسبوع حضر الزوج ومعه بعض أبناء عمومته وطلب من الأم تجهيز سلم بوها لأنه مسافر بها إلى انواكشوط ومنه إلى بانجول محل تجارته... طلبت رباب أن يمنحها بعض الوقت ويؤجل الموضوع للسنة القادمة ولكنه أصر... حاولت أن ترفض، ولكن مرافقيه أكملوا المهمة وأرغموا الفتاة على الركوب ولم تكن تحمل أي شيء وتجاهلوا بكاءها وحزن الأسرة، وهكذا غادرت سلم بوها مكرهة معذبة إلى غير رجعة... راحت إلى عالمها الجديد ومصيرها المحتوم، لقد دفع الرجل الثمن للأب المهمل، وبقيت الأم والأخوات بين اليأس والرجاء... كانت الأم المسكينة تتمنى في قرارة نفسها أن يفتح هذا الزواج أفقا أكثر رحمة لسلم بوها، فلم يكن بإمكانها التأثير في مسار الأحداث... كل المنظومة الاجتماعية العرفية والفقهية والقانونية تحجم دورها، وأدوار الضحايا... تلك قساوة الواقع وقساوة الاستسلام لواقع جامد يطحن بعجلته الصماء مشاعر المستضعفين.
في بانجول لم تكن سلم بوها الزوجة الوحيدة كانت رابعة لثلاث إحداهن من أصل إفريقي ومن بينهن سيدة مسنة وقورة خلوقة خدومة تكبر أمها سنا كانت الآمرة الناهية في البيت رغم أنها كانت مريضة... بدأ الزوج يعبث كل مساء بجسمها وعندما تحاول الامتناع يشبعها ضربا ويتفن في طرق إذلالها... كانت تكرهه وكان يخضعها لحلقات تعذيب ممنهجة وينهش جسمها بغريزية مفرطة أما طموحها ونزعتها الجامحة نحو التعليم فأصبحت في حديث كان... بعد أشهر توفيت عميدة الزوجات وطلقت الإفريقية وأعيدت الثالثة إلى أهلها، وأصبحت سلم بوها في عين إعصار نزوات الشيخ المنحرف، وبدل أن تكون سيدة البيت حولها إلى خادمة، ولم يلبث أن استقدم أخرى أكثر حظوة وأرغمها أن تخدمها كما تخدمه... عند هذا الحد انهارت صحتها بصورة لافتة وعندما أبلغه الطبيب قرب نهايتها وأبلغه أنها مصابة بمرض فقد المناعة المكتسب وأنه السبب لأنه يحمل الفيروس استكتمه على الأمر وجهزها للرحيل...
لم تكلف نفسها عناء الاستفسار عن مصيرها هل هي مطلقة أم لا لأن الزواج لم يكن يعني لها إلا العذاب وعذاب الطلاق لن يكون أقسى من عذاب الزواج... تعب وعنف وعذاب كلها الحياة... كانت ترغب في شيء واحد وهو رؤية أمها وأخواتها قبل أن يفرقهم الموت كما فرقتهم الحياة... قبل السفر أخضعها لحلقات تعذيب متتالية لكي يتأكد من أنها لن تبوح بأي شيء فهو لا يريد أن تحدث أحدا عن مرضها ولا عن مرضه ولا عن ممارساته معها... هدد بقطع اللسان وبالويل والثبور، وربما لم يكن يعرف أن حياتها على وشك النهاية بسببه.
عادت سلم بوها ذات مساء فوجدت الحي قد تحول إلى قرية صغيرة ووجدت أمها مريضة تسكن في عريش مع رجل مسن يبيع الفحم تزوجها على ما يبدو، أما أخواتها فقد أعاد الأب معهن نفس الكرة ورحلن رحلة اللاعودة مع أزواجهن... عبرت الأم عن شيء من الفرح وامتزجت دموع الأم والبنت ذاك المساء بغزارة، وبعد أيام تدهورت حال سلم بوها ودخلت في غيبوبة، ثم فارقت الحياة كما دخلت محبطة معذبة معنفة يائسة إلا من رحمة الله... لقحت بها الأم بعد أقل من شهر، هكذا هي الحياة ملحمة عرفية موريتانية بنهايتها يموت الأبطال سابحين في دموع معاناتهم لتلفهم رمال الضياع والنسيان إلى أبد الآبدين.
محمد عبد الله محمدو [email protected]