إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدى يكتب .. "ومكَروا مكْرا كُبَّارا" الحلقة الثانية

ثلاثاء, 02/07/2023 - 17:48

أوجه الشبه بين طريقتى إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام
فى الدعوة:

إن رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم المبعوثَ بملة جده إبراهيم - عليه السلام - قد سار السيرةَ نفسَها، وائتسى بمن له فيه أسوة حسنة، فدعا المشركين إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وترْكِ ما كان يعبد آباؤهم من الأصنام والأوثان، وعرَض نفسه على القبائل، وتعرّض للأذى والتهديد، ولاقى أتباعُه من الإهانة والتعذيب والتشريد ببطحاء مكة وشِعابها ما هو معلوم، فلم يزده ذلك إلا صبرا ومصابرة، وحرصا على الدعوة وهدايةِ الناس، كما تبرأ من معبودات قومه، وبيّن لهم ضلال ملتهم، وسفَهَ أحلامِهم، وأن مصيرهم إلى النار...
 وقد رسم له القرآن المنهجَ البيِّن الواضحَ الذى سار عليه فى التعامل مع قومه.
قال الله تعلى له:
(قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولى دين), وقال: (قل يا أيها الناس إن كنتم فى شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكنْ أعبُدُ الله الذى يتوفاكم وأُمِرتُ أن أكون من المؤمنين وأن أقِمْ وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذًا من الظالمين)، وقال سبحانه: (قُلْ إِنِّـى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دون الله لَمَّا جَاءَنِـى الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّـى وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ).
وقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعى على قومه عبادة الأصنام ودعاءها من دون الله، ويبين لهم أنها لا تملك لنفسها ولا لمن يعبدونها نفعا ولا ضرا، ويتلو عليهم الآيات المحكمات الصادعات بذلك:
(أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ)، (وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا )، (إنّ الذين تدْعُون مِن دون الله عِبادٌ أمْثالُكم فادْعُوهم فلْيَسْتجِيبُوا لكم إن كُنتُم صَادِقين)...
فكانوا يحتجون بأنهم ما يعبدونها إلا لتقربهم إلى الله زلفى، ويزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فلم ينفعهم ذلك عند الله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلى الله زُلْفَى إِن اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فى مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِن اللهَ لَا يَهْدِى مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ)، (وَيَعْبُدُونَ مِن دُون الله مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُون اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فى السَّمَاوَاتِ وَلَا فى الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وقد فهمت قريش معنى لا إله إلا الله، ولكنها استغربته واستنكرته، فقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجَعَل الآلهة إلها واحدا؟
إن هذا لشىء عُجاب)! واستنكفت عن ترك آلهتها لدعاية شاعر مجنون، فى نظرها، عياذا بالله: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون)؟!
لهذا وغيره كانت قريش تقول إن محمدا سفَّه أحلامهم، وسب آلهتهم، فناصبوه العَداء، واتهموه بشنائع التُّهَم، ثم فرضوا عليه وعلى أهل بيته حصارا شاملا جائرا كاد أن يأتى عليهم.
وقد حرَص رسول الله صلى الله عليه وسلم على هداية عمه أبى طالب كما حرَص إبراهيم على هداية أبيه، فاجتهد فى هدايته هدايةَ الدلالة التى يملكها، ولم يدخر جهدا فى النصح له، ولكن هداية التوفيق لا يملكها إلا الله عز وجل، فلم يُرِدْها ـ سبحانه وتعلى ـ لأبى طالب، كما لم يردها لآزرَ أبى إبراهيم من قبلُ.
وقد ظل عليه الصلاة والسلام يلاطف عمه هذا الذى كان يحميه ويحوطه، ويُلِين له القول، ويُرَغِّبُه فى الإسلام، وأبو طالب يقرّ بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأمانته، وخيرية دينه، لكنه يعتذر بأنه لا يمنعه من اتِّباعه إلا أنه سُبَّة وعارٌ عند العرب!  
حتى إذا حضره الموتُ جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يحثه على قول لا إله إلا الله، وأشياخُ قريش من حوله يقولون له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟
 حتى كان آخرَ ما قال: هو على ملة عبد المطلب.
وما انفكّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو غيره من عشيرته الأقربين، وينذر أم القرى ومن حولها، ويبشّر ويُنذِر حتى أذن الله عز وجل  له فى الهجرة، فهاجر إلى المدينة، وبدأ دينُه يظهر ويقْوَى يوما بعد يوم.
أما الأصنام التى كانت حول الكعبة فقد حطمها يوم فتح مكة، وكانت ثلاثَمائة وستين نُصْبا، وهو يقول: (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا).
وهذا ما فعله جده إبراهيم عليه السلام بأصنام قومه، كما تقدم.
وقد رغَّب ربنا عز وجل نبيه محمـدا صلى الله عليه وسلم وأمتَه فى الاِئتساء بإبراهيم والذين معه فى البراءة من المشركين ومعبوداتهم، وفى إعلان العداوة والبغضاء لهم أبدا حتى يوحدوا الله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بالله وَحْدَهُ).
 ثم استثنى من هذا الائتساءِ وعْدَ إبراهيم لأبيه بالاِستغفارَ له: (إلا قولَ إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك).
ومن هنا منَع رسولَه صلى الله عليه وسلم من الاستغفار للمشركين ولو كانوا من الأقربين، فقال تعلى: (ما كان للنبـىّ والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم).
وقد بين القرآن عذرَ إبراهيم فى ذلك أحسنَ بيان وأبلغَه، فقال تعلى: (وما كان استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم).
والقارئ الكريم يذكر جيدا عزمَ قريش على قتل النبىّ صلى الله عليه وسلم واجتماعَهم ذات ليلة حول بيته بمكة، لذلك الغرض الخبيث، وحرْصَهم على أن يضربوه بسيوفهم ضربة رجل واحد إذا أصبح، فيتفرق دمه فى القبائل، فيذهبَ هدَرا، فأخذ الله أبصارهم، فلم يروه لما خرج من بينهم، حتى أَوَى إلى غار ثور، ومنه إلى دار النصرة والإيواء وعينُ العناية الربانية تكلؤه وتحميه فى كل حركة وسكون. 
وإلى هذا المخطط الماكر الذى أُبْرِم بدار الندوة الإشارةُ بقوله تعلى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثـبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين).
 فكما أنجى الله إبراهيم من النار أنجى نبينا محمّـدا من كيد الأشرار، وفتك الفجار.
وقد سبق أن أذن النبىّ صلى الله عليه وسلم لجمع من الصحابة فى الهجرة مرّتين إلى الحبشة حين اشتدّ عليهم الحال بمكة، ثم لما حانت هجرته إلى المدينة، صحِبَه أبو بكر الصدّيقُ رضى الله عنه فى ذلك السفر المبارك العظيم، كما صحب لوط عمَّه إبراهيم عليهما السلام، فحاز لوط إثر ذلك مرتبة النبوة والرسالة، وحاز أبو بكر مرتبة الصدّيقيّة والأفضلية المطلقة على هذه الأمة بل على سائر الأمم، فهو أفضل البشر على الإطلاق بعد النبيين والمرسلين بإجماع المسلمين. وحازت سارة بهجرتها مع الخليل ولادةَ إسحق جدِّ أنبياء بنى إسرائيل قاطبة.

لقد اجتمع النبىّ صلى الله عليه وسلم مع جده إبراهيم فى الدعوة إلى التوحيد الخالص، ومحاربة الشرك، والتعرض للأذى الشديد، والصبر والتحمل، والنجاة من كيد المشركين، والهجرة إلى الله، وتحطيم الآلهة المعبودة من دون الله.
وكانت هذه الهجرة المحمدية الميمونة إلى دار النصرة والإيواء حدا فاصلا بين العهدين المكىّ والمدنـىّ، كما كانت الهجرة الإبراهيمية، من قبل، حدا فاصلا بين العهدين العراقىّ والشامىّ. 
فقد كان العهد العراقىّ عهدَ الدعوة إلى التوحيد، والصبر والمصابرة وتحمل الأذى فى سبيل الله، وكان العهدُ الشامىّ المكّىّ المباركُ عهدَ ولادة الذبيح إسمعيل ومُقامِه مع أمه هاجرَ بمكة. وسنراه فيما بعدُ يرفع مع أبيه إبراهيم قواعد البيت العتيق، ليكون مثابة للناس وأمنا، ومنسكا تهوِى إليه أفئدة من الناس للحجّ والعجّ والثجّ، وحرَما آمنا تُـجْبَـى إليه ثمرات كل شىء، وقبلة سيولّى محـمد صلى الله عليه وسلم وأمتُه وجوهَهم شطرَها؛
كما كان عهدَ بشارة بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب، ومكثٍ بأرض الشام التى بارك الله فيها للعالمين، فأضحت مهدا للرسالات والنبوّات، وبها أسس بعضُ ذرية إبراهيم ــ فيما بعدُ ــ المسجدَ الأقصى أُولى القبلتين ومَسرى أفضل الثقلين، كما أسس جدهم من قبلُ أولَ بيت وضع للناس فى الأرض لعبادة الله عز وجل: (إن أول بيت وضع للناس للذى ببكة مباركا وهدى للعالمين).
وكان إبراهيم الخليل عليه السلام قد نزل  بالشام، ثم بمصر، ثم لـمّا حدَث من غيرة سارة من هاجر ما حدث توجَّه بهاجر تِلقاءَ مكة.
ومن العجيب أن محمدا صلى الله عليه وسلم سيتولى بنفسه بناء المسجد النبوىّ بالمدينة المنورة إثر وصوله إليها مباشرة اقتداء بأبويه إبراهيمَ وإسماعيلَ، فكان مسجده بذلك ثانـىَ المسجدين والحرمين، ومبدأ انتشار ملة إبراهيم فى المشرقين والمغربين.
ومن العجيب أيضا أنه طهر المسجد الحرام من الأصنام، كما طهره من قبل أبواه للطائفين والعاكفين والركع السجود.
وبهذا يدرك العاقل مكانة الصلاة وأهميةَ المساجد وارتباطَها بالتوحيد فى ملة إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام. 
لقد كان العهد المكـىّ المحمدىّ يمثل مرحلة الدعوة إلى التوحيد كذلك، والتأسيس والتأصيل والتجذير لأصول الدين، وغرْس شجرة التوحيد والإيمان فى القلوب، وتخلية النفوس من أدران الجاهلية ورواسب الوثنية والولاء للقبيلة والعرق والجنس واللون، وتحليتها بالقيم النبيلة، وتزكيتها بالأخلاق الفاضلة، وتربيتها على الصبر والتحمل والتعلق بالله وحده، وتقويم كل مُنْآد من زيغ أو خُلق بثِقاف الوحى المنزّل على مدى ثلاثَ عشْرة سنة كاملة.
وجاء العهد المدنـىّ ليمثل عهد التشريع، وتفصيلِ الأحكام، ورفْع راية الجهاد على المشركين وأذنابهم، وبناء الدولة المسلمة، وتنظيم المجتمع المسلم الحنيف المطيع لله ورسوله الطاعةَ المطلقة الخالصة، فكان ـــ لا جرَم ــ عصرَ العزة والقوة والظهور والغلبة والفتح والنصر والتمكين، كما كان العهد الشامىّ المكّىّ لجده إبراهيم عليه السلام عهدَ البشائر والعزة والبناء والتمكين. وكذلك تكون العاقبة للمتقين. والحمد لله رب العالمين.
وبما قدمتُ من الشواهد القرآنية الكريمة فى قصة إبراهيم عليه السلام مع الشرك والمشركين، ومن خلال ما تمّ الإلماعُ إليه أيضا من حال النبىّ صلى عليه وسلم فى العهدين المكّىّ والمدنىّ اتضحت لنا معالم ملة أبينا إبراهيم عليه السلام على المستوى النظرىّ، فى المجال العقَدىّ الذى هو أصل الدين وأساسُه، كما اتضح لنا ـ على المستوى العملـىّ ـ كيف طبّق الخليل وابنه محمدٌ ـ عليهما الصلاة والسلام ـ مبادئ الملة تطبيقا ميدانيا، وجسداه بالفعل على أرض الواقع، بوصفه منهجا ربانيا لا مساومة فيه بحال من الأحوال. 
إن إسلام الوجه لله جل جلالُه، وتحقيقَ العُبودية له لا شريك له، والدعوةَ إلى توحيده خالصا صافيا، والتضحيةَ بالنفس فى سبيله، وموالاةَ أوليائه، ومعاداةَ أعدائه، ومفاصلتَهم، ومحاربةَ إشراكهم به سبحانه، والبراءةَ منهم ومن معبوداتِهم، وإبداءَ العداوة والبغضاء لهم، ولو كانوا أولى قربى، ودكَّ أوثانهم، ومصارحتَهم بضلالهم وعمَى بصائرهم، ومزايلةَ دارهم عند العجز عن التغيير هى أبرز سمات الملة الحنيفية الإبراهيمية المحـمدية السمحة الخالصة. 
وكل دعوة على غير هذا المنهاج فليست من ملة إبراهيم ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ فى شىء، وإنما هى دعوة شركية وثنية باطلة. والله على ما نقول وكيل. 
***
يتواصل بإذن الله تعلى.

10 رجب 1444للهجرة.
1 فبراير 2023م.
***
إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدى

 

لقراءة لحلقة الأولى اضغط هنا