III. الثأر الساساني :
عام 1975، بعد هجوم الهضاب المرتفعة لجيش فيتنام الشمالية، كان آخر رئيس لفيتنام الجنوبية نصبته الولايات المتحدة، تيـيــه، قد غمره إعصار اندحار جيشه البالغ مليون جندي ومعه فيلق الحملة الأمريكية. فلم يرمن مخرج إلا الطيران المتخفي والالتحاق بتايوان، بعد أن ألقى مرافعة عنيفة ضد أمريكا التي خذلته.
بضعة شهور قبل ذلك، هرب الجنرال لون نول من على سقف قصره على متن هوليكبتر، بعد أن حاصره " لخمير الحمر " العنيدون، وهو الرئيس الذي نصبته المخابرات الأمريكية، سنة 1970.
أما شريكه ونده في السلطة, سيريك ماتاك, فكانت له الكلمات التالية, قبل أن ينقض عليه " لخمير الحمر " أمام القنصل الفرنسي الذي كان يحاول إعطاءه اللجوء دون طائل, " لم أرتكب إلا خطأ واحدا وهو أني وثقت في الأمريكيين ".
في نفس الفترة, عرف البلد الذي تعرض لأكثر قصف بالقنابل في التاريخ ـ قبل العراق ـ وهو اللاووس نفس الهروب الفوضوي المذل لحلفاء الأمريكيين, دون نجدة منهم. فقد خرج الأمير الأحمر سوفانوفونغ من الكهف الذي كان يقود منه حرب العصابات منذ اثنتي عشرة سنة, على رأس شيوعيي حركة " باتت لاؤو ". نـُصِبَ سوفانوفونغ رئيسا للجمهورية, أما ملك البلاد فبُعث به لإعادة التأهيل في حقول الأرز في سهل الجرار.
أحد الأصدقاء المخلصين للولايات المتحدة كان شاه إيران, محمد رضا شاه بهلوي, الذي نصبه الغربيون على عرش الطاووس سنة 1941 بعد أن أزاحوا والده.
عندما قلب له الشعب الإيراني ظهر المجن, نتيجة لغطرسته وفساده, في الأيام الأولى من السنة 1979, وحاصر المتظاهرون القصر الإمبراطوري, وأعلن الجيش حياده رافضا إطلاق النار على الشعب وصل إلى طهران ضابط أمريكي سام, هو الجنرال هويزير نائب الجنرال هيج القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي في أوروبا. تمكن الجنرال من مقابلة الشاهين شاه ـ ملك الملوك ـ بأربعين يوما تقريبا قبل قدوم الخمين من فرنسا, ولم يكن من أجل أن ينصحه بالمغادرة وإنما ليعرف متى سيغادر... كان هناك في إيران, آنذاك, خمسون ألف جندي أمريكي.
العملاء الطيعون والحلفاء المتساهلون للولايات المتحدة الذين تركهم " العم سام " في قمة هيجان الزوبعة لا يحصون ولا يعدون, من أمريكا اللاتينية إلى اندونيسيا والفلبين. ربما يكون من أكثرهم مدعاة للشفقة موبوتو,وهو عميل للمخابرات الأمريكية وضع على رأس الكونغو ليمسك هذا البلد الكبير والغني خارج التاريخ والنمو. وعندما رنت ساعته في نظر الغربيين لم يجد صديقا رؤوفا يمسح دموعه التي سالت بغزارة, ولا مضيفا معترفا بالجميل الماضي يوفر مأوى لائقا. مات موبوتو في خلوة فظيعة وسط البؤس المعنوي, يعذبه وخز ضميره, والمال المكدس من السرقة يزيد من حزنه وفزعه بدلا من أن يهدئ من روعه.
هكذا ينتهي من يعول على الولايات المتحدة, والغرب عموما.
القرار في أمريكا له مصدران. الأول هو المؤسسات, أي الأغوال الجامدة بلا عاطفة, التي لا تتقيد بالأخلاق وليست لها ذاكرة. المصدر الثاني الذي هو أكثر سيادة ولكنه أكثر تقلبا وتغيرا وانعداما للتبصر, هو الرأي العام وهو استبدادي.
وإذا صدقنا الكاتب استيندال فإن " الرأي العام يصنعه الأغبياء ". في أمريكا أكثر من أي مكان آخر.
في أمريكا هناك كل شيء, لاشك أن هناك مفكرين كبارا وكتابا عظاما, وهناك أنسانويون مثاليون من جميع النزعات وحتى من الأشكال التي انقرضت من البلدان الأخرى. ولكن كل هذه الأنواع لا تمثل أمريكا. حتى العلماء والباحثون والمهندسون لا يمثلون أمريكا. الرأي العام يسيطر عليه الأمريكي المتوسط العادي, وهو ليس بالضرورة متعلما ولا واعيا. هذه مفارقة ولكن الأمور تجري هكذا.
هناك دراسة منشورة هذه السنة, 2018, تبين أن ستة عشر مليون أمريكي ـ نعم ستة عشر مليون ـ تعتبر أن اللبن الممزوج بالشوكولاته والذي يباع في البقالات مصدره البقر الذي لونه كستنائي ! ما يمنع هؤلاء الستة عشر مليون من أن تضاف لهم ستة عشر مليون أخرى, أقل غباء قليلا, ويعتبر الجميع أن العرب ياكلون لحم البشر ويحاصرون البيت الأبيض ومن ثم يطالبون, وعلى جناح السرعة, وبالقوة, ببعثة تفتيش تتأكد أن ثلاجاتهم لا تحوي لحوم البشر, أو ربما تعتبر أن الفظاعة والجرم مشهودين وأن ما يلزم هو إرسال صواريخ " ذكية " تردعهم عن تلك الممارسة التي تحرمها التوراة, والتي أقلع عنها شعب الموندوغومور نفسه في استراليا.
دون أن ننساق لهذا الاستهام المبالغ فيه فإن كل إشاعة, أقل أسطورية ولكن مستساغة شيئا ما, وكل تلاعب بنية الإيذاء قد يقود مجتمعا كهذا إلى أبعد الحدود المدمرة, لأنه لا يخشى سلطة ولا يؤطره سوى صحافة تتملق له وتداعبه.
ليس بالإمكان الثقة في الهيئات القيادية الأمريكية ولا في رأيهم العام. الخروج بسلامة من مخالطة الأمريكيين عبارة عن معجزة. إن الأكراد جربوا الأمر, السنة الماضية, بعد صداقة دامت أكثر من خمسين سنة.
هناك وهم يجب أن لا نكترث به وهو الملاسنات الكلامية والتومئات الجارية الآن بين الولايات المتحدة من جهة وإيران وتركيا من جهة أخرى. قد تكون لها, ربما, عواقب بالنسبة لإيران نتيجة لديماغوجيتها الكلامية حول فلسطين والتي هدفها بالذات استعطاف العرب وأيضا استياء الإسرائيليين من نظام الملالي. ولكن ليس هناك تعارض, ولا تنافر طباع أساسي بين الأمريكيين والإيرانيين إذا نزعنا عن الأخيرين ألثمتهم.
انزعوا عن الإيرانيين دور الفزاعة الذي يلعبه خامئنئي باسم مصالح طبقة بأكملها, هي طبقة الملالي, لكي يعود شهر العسل بين الأمريكيين وجارتنا الشرقية حميميا كما كان قبل عشرات السنيين.
الإيرانيون والأتراك لم تكن لهم يوما واحدا حساسية, فضلا عن عداوة, اتجاه إسرائيل. وقد تعايشوا بتفاهم مع الدولة العبرية منذ نشأتها. نزاعهم الشكلي مع الغرب ناتج عن غرورهم وطمعهم في قيادة المنطقة والإقلاع عن الأكل من يد سيد. هناك ثمن يجب تسديده وهو أخذ مسافة اتجاه حلفاء فقدوا الاعتبار إن لم يكونوا أصلا ممقوتين. من الطبيعي أن يستمروا في الثرثرة إذا كان من شأنها أن تجذب لهم العرب المصابين بالهرج, ومن طبيعة اللعبة أن ترد أمريكا بنوع من قرص الأذن.
تنافر الطباع والتعارض الحقيقي موجود بين الغربيين والعرب. العرب مرفوضون مهما كان قادتهم وأنظمتهم السياسية, فهي تشبه رفض حضارتهم من أساسها, ولاشك أن ذلك الرفض يندرج فيه تذكر مبهم لماض سحيق, وحثالة ترسبات وعوالق ذهنية لفترات معاصرة قريبة.
ما هو نصيب ما يسميه الأوروبيون " السرازون ", وهو تحريف للشرقيين أي العرب الذين اجتاحوا أوروبا في القرن الثامن, في ذاكرتهم الجمعية؟ وما دور فترة الصليبيين الذين باركهم الحبر الأعظم والذين طردوا من الأرض المقدسة قبل قرون؟ وفي فترة أقرب, ما دور شيطنة الصحافة لما سموه, في الخمسينات, " الفلاجة" في المغرب العربي أي المقاومون الذين حملوا السلاح لتحرير تونس والمغرب والجزائر وترك ذلك حقدا عميقا دفينا في نفوس الغربيين؟ ما دور الرعب, غير المبرر, للخطابات النارية, في الخمسينات أيضا, لجمال عبد الناصر الذي كانت الصحافة تقدمه على أنه هتلر جديدا؟
ما الذي تركته المفاجأة المريرة في أذهان الغربيين من موقف الملك فيصل, وعلى أثره أمراء الخليج حول البترول في فترة 1973 ـ 1974, والخوف من العودة إلى النقل على ظهور الخيل والإنارة على ضوء الشموع؟ التزامن مثير : فيصل اغتيل في تلك الظروف.
قد يكون هناك أكثر من مجرد الماضي. يجب أن نبحث عن أسباب تلك " اللعنة ", لأن منطقتنا هي إحدى بؤر الغليان والقلق بالنسبة للغربيين وهم في نفس الوقت يرفضون الحوار معنا ولا يقبلون الصداقة التي نعرضها عليهم دون شروط, إلا بازدراء, ومع ذلك بثمن باهظ يشبه كثيرا الابتزاز في عملية أخذ رهائن.
إسرائيل وعداوتها لا تفسر كل شيء. لو كان الأمر فقط يعني مصلحة إسرائيل لكان هذا دافعا لهم إلى صداقتنا للوصول عن طريق الثقة المتبادلة إلى مخرج للصراع العربي ـ الإسرائيلي. المشكل قد يكون غير قابل للحل ولا للتفاهم, وقد يكون مصدره نظرة مستقبلية تنظر إلى طاقتنا البشرية والاقتصادية الكمية ومكانتنا الاستراتيجية بأنها مهيأة سلفا أو طبيعيا ومقدر لها أن تتطور نحو النوعية, خلال ثلاثين أو أربعين سنة, وأن تصبح خطرا كامنا, تهديدا محتملا لمكانة الغرب المهيمنة. في هذه الحالة تكون مراوغاتهم وعداوتهم هدفها عرقلتنا بجميع الوسائل والحيلولة دون تقدمنا وتطورنا ووحدتنا, وهو نوع من الظلامية السياسية, لكي لا نصبح صينا أخرى تؤرقهم.
ولكننا الآن لسنا في هذه المرحلة وتكرارا علينا, من جديد, من أجل وجودنا كشعب يتمتع بذاته وحضارته, بإمكانه أن يتعصرن وينمو, ويحل حتى المشاكل الأولية للحياة, علينا التخلص من المحاولات الآنية لهجوم متخلفين آخرين يردون السيطرة علينا وقيادتنا.
إذا كان مقدرا لنا أن نبقى دائما تحت السيطرة, فإنه من الأفضل أن نبقى تحت هيمنة أناس أذكياء ومهذبين يعرفون أصول التعامل ويغلفون تصرفاتهم وكلامهم بالعديد من الإعتبارات, مثل حقوق الإنسان وحقوق الشعوب, وفي أسوء تقدير سوف لا يدوسون بالأقدام " الهابياس كوربيس ".
إن الوقت قد حان للعرب أن يتخذوا مسؤوليتهم, كل العرب, مسؤولين ومواطنين عاديين.
عندما أفاق العرب بعد تطاول الليل التركي عليهم ـ تحت اسم الخلافة العثمانية ـ وفهموا شيئا ما المسار الجديد للعالم, فإنهم قد ارتموا, مهما كانت مواقعهم, في المعركة ضد العثمانيين, حتى الفقهاء, قبل أن يتشكل القوميون العرب بهذا العنوان.
إن مواعظ وخطب الفقيه الشهير محمد عبد الوهاب, هي الأولى, حسب المؤرخين, التي هزت السيطرة التركية في الجزيرة العربية.
في الوقت الحالي, بعض القادة القلائل كان لهم من الوعي والشجاعة ليتحملوا قيادة المرحلة والصراع : الأمير محمد بن سلمان والأمير محمد بن زايد والرئيس السيسي ووقفوا أمام الخطر, وأحيوا الأمل والثقة في هذه الأمة. يقول المفكر الكبير, منظر القومية العربية, مشيل عفلق, الذي لا يعرفه الكثير والذي تكون كتاباته مصدر قوة فريدا لمن يفكر في مصير الوطن العربي :
" يكفي أن يثق إنسان عربي واحد في نفسه لتثق الأمة العربية قاطبة في نفسها ".
واجب كل عربي نزيه ومخلص لوطنه العربي, في هذه المرحلة الحاسمة والدقيقة هو أن يكون بجهده وجسمه,فإن لم يقدر, فبقلبه مع محمد بن سلمان ومحمد بن زائد وعبد الفتاح السيسي.
في هذه المعركة, أبسط حكمة تقتضي توطيد كل عوامل ودعائم القوة.
البعض ينظر إلى هذا التعزيز والتعميق بأنه يتطلب عملا غير مصنف, ولكن يحظى بالمتابعة, من خلال, أو على شكل, مؤتمرات عربية قطاعية أو عامة هدفها أن تخلق الانسجام والدعم للقادة : الأمير محمد بن سلمان والأمير محمد بن زايد والرئيس السيسي, وإنارة الطريق لكل المواطنين العرب.
هناك آخرون يميلون إلى الاعتقاد أن ما يضاعف القوة والمتانة هو إصلاحات مؤسسية في دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية, وخاصة إصدار دساتير وتشكيل برلمانات منتخبة وأن تلك الإصلاحات قد تصل إلى حذف عبارة " السعودية " من اسم المملكة.
وهناك أيضا من يعتقد أن قوة الأمير محمد بن سلمان مرهونة بتحسين ظروف ومعاش الجماهير الشعبية في الأرياف والقرى وضواحي المدن الكبرى وأن هذه الطاقة الجبارة هي صاحبة المصلحة الحقيقة في إصلاحاته وتوجهاته.
هذا النوع من السياسات والإصلاحات يرجع, بشكل طبيعي إلى تقدير ومسؤولية القادة المعنيين.
الأمر العام والذي يعني جميع العرب وهو أعجل وأجل مهمة يكمن في خلق جبهة موحدة ومنيعة توفر المساندة والدعم للرجال الذين رفضوا أن يفقد العرب روحهم ومفهوم جنسيتهم العربية وانتمائهم الحضاري, أمام غطرسة وغدر الساسانيين الجدد, الملتمسين الثأر ليزدجرد ورستم.
إننا فقط بدحر الفرس وإخراجهم من أرضنا سيكون لحياتنا معنى ولتطلعاتنا المشروعة في الكرامة والحرية. عند ذلك سيتخذ مشروعنا السامي كل معانيه, المشروع الذي يريد أن يصالح العرب مع التاريخ, أي المسار الخلاق للزمن, ويصالحهم مع ضرورات الحياة العصرية, ويعيدهم من جديد إلى محور الحضارة.
انتهى